غزل تركي ـ فرنسي لا ينقذ فكرة «المنطقة العازلة».. وأردوغان يقمع الاحتجاج
منطقة عازلة في الشمال السوري، وخلاف تركي ـ أميركي، وتحالفي حول ما بعد عين العرب (كوباني)، التي يسلّم الأميركيون بقرب سقوطها، فيما ينتظر الأتراك بفارغ الصبر سقوطها وسحق زعيم تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش» أبو بكر البغدادي للمقاومة الكردية في أحيائها، بعد أن سقطت أريافها بأكملها بيد «داعش».
ورافق الرفض الأميركي لاقتراح تركي، بدعم فرنسي، لمنطقة عازلة في الشمال السوري، شبه إعلان أميركي مسبق بسقوط عين العرب، ولامبالاة كبيرة بمصير المدينة السورية في مجرى الصراع على نحو ما نعى فيه المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) جون كيربي «كوباني التي قد تسقط بيد داعش، حيث من السابق لأوانه اعتبار ذلك خسارة استراتيجية، وعلينا أن نكون مستعدين لسقوط مناطق أخرى بيد داعش».
وغسل كيربي الأيدي الأميركية والتحالفية، التي تفتقر إلى استراتيجية واضحة وأهداف واحدة في قتال «داعش»، من دماء الأكراد «لأننا كنا واضحين منذ البداية عندما قلنا إن الغارات الجوية لن تنقذ كوباني، لكن ستكون هناك هزائم وانتكاسات، وسيكون هناك انتصارات».
وخصّت طائرات التحالف بالأمس المدافعين عن المدينة بست غارات، ودمّرت، بحسب بيان أميركي، آلية نقل مدرعة، وثلاث مدرعات أخرى، ومركزاً للتجمع»، فيما أشار «المرصد السوري لحقوق الإنسان» إلى أنها «قتلت ٤٥ مقاتلاً من داعش».
وأجبرت المقاومة السورية الكردية المهاجمين على إخلاء المواقع التي كانوا قد دخلوها في القسم الشرقي من المدينة، فيما استمرت الهجمات على الأحياء الغربية والجنوبية، التي تقدّم فيها المتشددون. وتمكن «داعش» رغم الغارات من إرسال تعزيزات إضافية إلى خطوط القتال من منبج وجرابلس، لشن هجمات جديدة في الأجزاء الشرقية من المدينة.
وأعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الإيرانية مرضية أفخم «استعداد إيران لتقديم الدعم اللازم بشأن كوباني المحاصرة لو طلبت الحكومة السورية منها ذلك»، موضحة أن «المعيار لإيران في هذا الشأن هو تلقي طلب رسمي من الحكومة السورية». وقالت إن «كوباني جزء من السيادة الوطنية والأراضي السورية، ولو كان هناك طلب لتقديم أي مساعدة ممكنة فإننا جاهزون لذلك». وأعربت عن «الأسف لتجاهل القضية من جانب المجتمع الدولي»، مضيفة أن «أحد المخاطر الراهنة هو أن التحالف الذي يتولى مهمة محاربة داعش يعمل بالشكل الذي أطلق يد داعش في المنطقة».
وباستثناء الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند لم يجد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان شريكاً غربياً من التحالف ضد الإرهاب ليهربا سوياً إلى الأمام نحو المنطقة العازلة في الشمال السوري. ولم يعمر الاقتراح التركي، المدعوم فرنسياً، طويلاً، لاصطدامه فور الإعلان عنه بالحدود المعلنة لعمليات التحالف ضد الإرهاب، وعدم إنزالها إلى الأرض وإبقائها في السماء، حرباً جوية ضد «داعش»، حتى إشعار آخر، وبالرفض الأميركي الفوري لأي منطقة عازلة.
فعندما قال بيان الاليزيه إن «هولاند حضّ خلال اتصال هاتفي مع اردوغان على ضرورة تفادي المذابح في شمال سوريا، وقدم دعمه للفكرة المقترحة من الرئيس التركي بإقامة منطقة عازلة بين سوريا وتركيا، لاستضافة وحماية النازحين»، كان كيربي يقول بشكل متزامن إن «فكرة منطقة عازلة في الشمال السوري ليست خياراً عسكرياً مطروحاً على طاولة البحث، والفكرة ليست بجديدة»، كما أن المتحدث باسم البيت الأبيض جوش ايرنست قال إن إقامة المنطقة العازلة «ليست أمراً قيد التفكير حالياً».
وقدّم وزيرا خارجية أميركا جون كيري وبريطانيا فيليب هاموند صيغة أقل حسماً، لكنها تتسع لدفن الاقتراح التركي - الفرنسي، بقول كيري إن «المنطقة العازلة فكرة تستحق البحث»، فيما أبقى هاموند الفكرة «في مرحلة استكشاف مع الحلفاء الآخرين».
وألمح كيري إلى أن الحيلولة دون سقوط عين العرب في أيدي مقاتلي «داعش» لا تمثل هدفاً استراتيجياً للولايات المتحدة. وقال «من المروّع متابعة ما يجري في كوباني في حينه... يتعين عليك أن تتروى وتتفهم الهدف الاستراتيجي». وأضاف «على الرغم من الأزمة في كوباني، فإن الأهداف الأصلية لجهودنا هي مراكز القيادة والسيطرة والبنية الأساسية. نحن نسعى لحرمان الدولة الإسلامية من القدرة الكاملة عن شن ذلك، ليس في كوباني فقط ولكن في جميع أرجاء العراق وسوريا».
ويبدو الاقتراح التركي المدعوم فرنسياً هروباً إلى الأمام للطرفين، خصوصاً لأردوغان. فكلما صمد مقاتلو «وحدات الحماية الشعبية» الكردية، وهذا ما يقلب الحسابات بحرب خاطفة، طال أمد المجزرة التي تراقبها الدبابات التركية عن قرب، واشتدّ مأزق اردوغان داخلياً في مواجهة الأكراد وحركة الاحتجاج التي كانت حصيلتها الأولى 21 قتيلاً في شوارع المدن التركية بالأمس، كما أنها، وللمرة الأولى منذ أكثر من 20 عاماً، أرغمت السلطات التركية على فرض حظر للتجول في ست محافظات في البلاد تقطنها غالبية كردية لإعادة الهدوء. وفي ديار بكر قام عسكريون ودبابات بدوريات في المدينة التي تضم أكثر من مليون نسمة، والتي أقفرت شوارعها بعد ليلة شهدت أعمال عنف.
وفرض حظر التجول أيضاً في مدن أخرى جنوب شرق البلاد مثل ماردين وفان وباتمان وسيرت. وإضافة إلى جنوب شرق البلاد، جرت تظاهرات تخللتها صدامات بين محتجين وقوات الأمن في جميع أنحاء تركيا، وخصوصاً اسطنبول وأنقرة واضنة وانطاليا ومرسين. وفي ختام اجتماع للوزراء والمسؤولين عن القوى الأمنية، ندّد رئيس الوزراء أحمد داود اوغلو «بالرعاع» الذين يقفون وراء موجة الاحتجاجات التي تهدّد مسار عملية السلام الهشة بين الأكراد وأنقرة. وقال «أدعو المواطنين إلى عدم السماح باستغلالهم من قبل مجموعات هامشية وأجدد التأكيد أن النظام العام سيُعاد فرضه عبر جميع الوسائل».
خارجياً يواجه الأتراك احتجاج الرأي العام العالمي، وتظاهرات للجاليات الكردية التي نزلت إلى شوارع العواصم الغربية دعماً للمقاتلين الأكراد، واحتجاجاً على التواطؤ التركي مع «داعش». كما يجد الأتراك أنفسهم معزولين بعد أن حدد حلف شمال الأطلسي، على لسان أمينه العام ايان سولتنبرغ، شروطه لمساعدة جناحه الجنوبي، بالحدود السورية، وعدم الموافقة على أي مغامرة تركية في ما يتعداها.
وبغض النظر عما ستؤول إليه معركة عين العرب في الأيام المقبلة، فمن الواضح أن «حزب الاتحاد الديموقراطي» ومقاتلي «وحدات حماية الشعب» قد حققوا انتصاراً كبيراً بالصمود في مواجهة «داعش»، لن يكون بإمكان الجيش التركي تجاهله، وسيكون عاملاً معنوياً مهماً، رغم أن سقوط المدينة سيطوي شقاً كبيراً من مشروع الإدارة الذاتية الكردية في سوريا، وهو الهدف الذي سعى إليه اردوغان.
وخلال الساعات الماضية تناوب الأتراك على إقفال المعبر الأخير للجرحى من عين العرب. وتوفى اثنان من عشرة جرحى، بعد أن نزفوا حتى الموت تحت أنظار الجيش التركي، الذي رفض نقلهم في الساعات الأولى إلى المستشفيات.
ويندرج التأييد الفرنسي لمنطقة اردوغان العازلة في إطار التقارب مع الأتراك للحصول على دعم أمني تركي وتنسيق أفضل بين الاستخبارات التركية والفرنسية، لاحتواء العائدين الأوروبيين والفرنسيين، المقدرين بثلاثة آلاف مقاتل، إلى القارة الأوروبية، بعد تقصير أدى قبل 10 أيام إلى عودة ثلاثة فرنسيين قاتلوا مع «داعش» عبر تركيا من دون أن تبلغ المخابرات التركية باريس عن مغادرتهم الأراضي التركية.
ويسود الجانب الفرنسي الهلع من فرضية، شبه مؤكدة، «بعودة المئات من جهاديي داعش لتنفيذ عمليات إرهابية في أوروبا». وكان وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف، قد اضطر بعدها إلى زيارة أنقرة، للتوافق على تلافي أخطاء مشابهة تسمح بتسرب «الجهاديين» العائدين إلى فرنسا من دون موانع. كما ينسجم التأييد الفرنسي للاقتراح التركي، مع تخبط الديبلوماسية الفرنسية المستمر ورهانها على إيجاد منطقة سورية تأوي معارضة «معتدلة»، تعمل مع باريس، ولم يعد لها أي وجود، منذ أن اجتاح «الجهاديون» معاقلها.
ويبدو تأييد التبادل التركي الفرنسي لتقسيم الشمال السوري، بحجة إيواء النازحين وحمايتهم، أكثر من هروب للأمام في غياب دعم الحلفاء أنفسهم لهذا الاقتراح، وتجاهل أن أي منطقة عازلة تحتاج بالضرورة إلى قرار في مجلس الأمن سيصطدم بالروس، والى فرض منطقة حظر جوي لحمايتها وإرسال قوات برية، وحماية ممرات إنسانية فيها.
وكان الفرنسيون قد حاولوا في الماضي أكثر من مرة وأخفقوا في تمرير مشاريع مشابهة في مجلس الأمن، بسبب الفيتو الروسي الصيني المزدوج. ويعرف الطرفان مسبقاً أن الأميركيين لن ينزلوا من الجو في الوقت الحالي، وأن العمليات البرية ستعرضهم إلى حرب استنزاف طويلة، لا يريدونها. وكان قائد أركان الجيش الأميركي مارتن ديمبسي قدم مرافعة، أمام الكونغرس قبل عامين، تحدّث فيها عن الكلفة المالية العالية لأي منطقة حظر جوي في سوريا، فضلاً عن ضرورة إرسال قوات برية، وهو موقف لم يتغيّر، ومن المنتظر أن يشرحه المشرف الأميركي على التحالف جون الن، الذي سيصل إلى تركيا اليوم.
وغني عن القول إن الاستراتيجية الوحيدة المعروفة لواشنطن حتى الآن هي عدم إرسال أي قوات برية، وعدم الوثوق بأي طرف من المعارضة السورية المسلحة، إذ قال كيربي «لا يوجد لدينا طرف فاعل على الأرض في سوريا، وداعش لا يشبه أياً من التنظيمات الأخرى».
أما قائد الأركان الأميركي فيضع في مقدمة النظر إلى عمليات التحالف، تراجع فعاليتها المستمر لأن «الجهاديين عدو يتعلّم، وبات يحسن التلاعب واستخدام السكان للتمويه».
المصدر: السفير