انتهاك العمق الاستراتيجي للقضية الفلسطينية
يقول نتنياهو إن «السماء هي سقف» العلاقات الثنائية الإسرائيلية – الهندية ويقول رئيس أذربيجان الهام علييف إن علاقات بلاده مع دولة الاحتلال الإسرائيلي تشبه «جبل جليد، تسعة أعشاره تحت سطح الماء»
وصفت الزيارة التي قام وزير خارجية دولة الكويت الشيخ صباح خالد الصباح ل"دولة فلسطين" تحت الاحتلال في أيلول / سبتمبر الماضي بأنها "تاريخية" كونها الأولى من نوعها منذ عام 1967، وكانت آخر محطة في مسيرة عربية مستمرة لتطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، إما بالاعتراف الدبلوماسي المباشر بها أو بالتعامل غير المباشر معها عبر البوابة الفلسطينية.
وباستثناء الحالة المصرية، اتخذت عملية التطبيع العربي المباشرة وغير المباشرة من اعتراف منظمة التحرير بدولة الاحتلال "قميص عثمان" لها أو جرت بموافقة المنظمة أو بتشجيع منها، غير أن "الإشارة الخضراء" التي أضاءتها المنظمة لاستمرار هذه العملية قد فتحت الطريق أمام دولة الاحتلال كي تخترق العمق الاستراتيجي الداعم تاريخيا للقضية الفلسطينية وبخاصة إسلاميا وآسيويا، بحجة يتكرر التذرع بها بأن الدول الإسلامية ودول حركة عدم الانحياز غير العربية "لا يمكن أن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين" أو عربية أكثر من العرب في علاقاتها مع دولة الاحتلال.
وبينما كانت تقارير الأنباء تتحدث مؤخرا عن لقاء على مأدبة عشاء بضيافة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون وزوجته وزيرة الخارجية السابقة هيلاري في نيويورك بين وزيرة العدل في دولة الاحتلال، تسيبي ليفني، وبين عدد من وزراء الخارجية العرب، ومعهم الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي، وهي تقارير لم تنفها حكوماتهم، كان رئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، يعقد اجتماعا مع نظيره الهندي، نارندرا مودي، في نيويورك ليعلن بأن "السماء هي سقف" العلاقات الثنائية، وليعلن مودي اتفاقه معه على أن هذه العلاقات "تاريخية"، وهو ما يتنافى مع تاريخ العلاقات الهندية مع دولة الاحتلال.
والهند عملاق آسيوي قيادي في حركة عدم الانحياز وكانت تاريخيا داعما دوليا رئيسيا للقضية الفلسطينية العادلة، لكنها عدلت مرجعيتها لهذا الدعم كي ينسجم مع مرجعية منظمة التحرير في التعامل مع دولة الاحتلال، ولا بد إن عاجلا أو آجلا أن ينعكس حجم التبادل التجاري والعسكري والأمني بين الهند وبين دولة الاحتلال، الذي بلغ مؤخرا ستة بلايين دولار أميركي تقريبا، تعديلا في الموقف السياسي الهندي على حساب دعم الهند التاريخي لفلسطين وقضيتها.
ومثال آخر: حسب إحدى الوثائق السرية التي نشرها موقع "ويكيليكس" عام 2009، وصف الهام علييف رئيس أذربيجان، وهي دولة إسلامية نفطية، علاقات بلاده مع دولة الاحتلال بانها مثل "جبل جليد، تسعة أعشاره تحت سطح الماء".
وخلال الشهر الماضي كان موشى يعلون أول وزير حرب في دولة الاحتلال يزور أذربيجان منذ تبادل الطرفان العلاقات الدبلوماسية قبل 22 سنة. وفي أيار الماضي زارها وزير خارجية الاحتلال، المستوطن غير الشرعي في الضفة الغربية المحتلة، أفيغدور ليبرمان.
وقد بدأ مؤخرا انتاج مشترك في العاصمة باكو لطائرات من دون طيار من صنع دولة الاحتلال، كما شاركت 16 شركة لصناعة السلاح من شركاتها في معرض باكو قبيل منتصف الشهر الماضي. وتستورد دولة الاحتلال حوالي (40%) من احتياجاتها النفطية من اذربيجان عبر خط أنابيب يمر في جورجيا وينتهي في مرفأ جيهان التركي على البحر الأبيض المتوسط .
ولم تستطع إيران الحد من هذه العلاقات، بالرغم من ثقل وزن قواسمها المشتركة مع أذربيجان المتمثلة في (470) ميلا من الحدود المشتركة، وفي اعتناق ثلثي الأذريين لمذهب الأغلبية الشيعية في إيران، وفي كون ربع الإيرانيين من أصل اذري. وكانت طهران قد أعلنت عن إسقاط طائرة "هيرمس" من دون طيار قالت إنها انطلقت من أذربيجان في آب / أغسطس الماضي.
وبسبب عوامل الجوار الجغرافية – السياسية والروابط الإسلامية لا بد من وقفة عجلى عند تركيا وإيران. فقد كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بدولة الاحتلال، وكانت إيران هي الثانية. والمجموع الفلسطيني، المقاوم والمفاوض على حد سواء، يعد تركيا اليوم "صديقا"، بينما يعد جزء عضوي أساسي من المجموع العربي إيران "عدوا"، مع أن الموقف الإيراني قد شهد بعد الثورة على نظام الشاه انقلابا استراتيجيا في الموقف من دولة الاحتلال، سحب الاعتراف بها وانحاز إلى الشعب الفلسطيني، بغض النظر عن الجدل العربي الدائر حول الدوافع والأهداف، بينما لم يتغير الموقف التركي منها في الجوهر، لكنه جنح إلى مزيد من التوازن بين طرفي الصراع التاريخي في فلسطين، ليؤهل تركيا للقيام بدور "وسيط" بين العرب وبين دولة الاحتلال، وقد توسطت تركيا فعلا بينها وبين سوريا، ولا يختلف هذا الدور في جوهره عن الدور "الأطلسي" لتركيا قبل أن يصعد المد الإسلامي إلى سدة الحكم فيها.
إن الدعاية التركية "الإسلامية" الواسعة، وبخاصة منذ تولى حزب العدالة والتنمية الحكم في أنقرة، تخلق الانطباع العام العربي الخاطئ بأن تركيا قد غيرت موقفها من دولة الاحتلال بعد "أزمة غزة" الدبلوماسية بينهما بالرغم من استمرار التبادل التجاري والتعاون العسكري بين الجانبين، ما يذكر بالفكرة الشائعة بأن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني رفض الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، لتدحض هذه الفكرة الباحثة والمؤرخة والأستاذة الجامعية الأردنية فدوى نصيرات في كتاب لها عنوانه "دور السلطان عبد الحميد الثاني العثماني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين (1876 – 1909)" الذي وثق تأسيس (19) مستعمرة على مساحة (45) ألف دونم من الأرض الفلسطينية استوطنها حوالي خمسون ألف يهودي في تسع قرى، كان منهم (29) ألفا في القدس وحدها، بحلول عام 1897.
وإذا كان الموقف التركي يبدو قابلا للتطوير الايجابي له عربيا، فإن الموقف الإيراني يبدو مهددا عربيا بالتغيير السلبي، إذ لا يسع المراقب إلا أن يتساءل كم سيطول الوقت قبل أن يقود استبدال العداء العربي لدولة الاحتلال بالعداء لإيران إلى تراجع الأخيرة عن "انقلابها الاستراتيجي"، لتقتدي بالهند أو تركيا أو أذربيجان في علاقاتها مع دولة الاحتلال!
في الثالث عشر من تموز / يوليو الماضي، وفي مقال له نشرته "جاكارتا غلوب"، دعا الكسيوس جمادو، عميد كلية الحكم والشؤون العالمية في إحدى جامعات إندونيسيا، حكومة بلاده إلى الاقتداء بتركيا (ومصر أيضا) في علاقاتها مع دولة الاحتلال، لأنه، في رأيه، "يجب وجود آلية للتحدث مباشرة مع إسرائيل ليتسنى لنا التعبير عن غضبنا وخيبة أملنا" من معاملتها للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. إنه عذر أقبح من ذنب لتسويغ اعتراف إندونيسيا بدولة الاحتلال، وهي أكبر بلد إسلامي من حيث عدد السكان ولا تقيم حتى الآن علاقات دبلوماسية معها.
وماليزيا دولة إسلامية كبرى أخرى لا تقيم حتى الآن علاقات مع دولة الاحتلال. وعندما قام شقيق ملكها بزيارة غير مسبوقة لدولة الاحتلال في سنة 1994، بعد عام من توقيع "اتفاق اوسلو" سيء الصيت، بالرغم من وجود قانون ماليزي يحظر مثل هذه الزيارات، قال الصديق العريق للشعب الفلسطيني ورئيس الوزراء آنذاك، مهاتير محمد، إن بلاده بدأت تدرس إقامة علاقات دبلوماسية مع دولة الاحتلال "لأن بلدانا عربية قد فعلت ذلك". لقد حان الوقت لإسقاط هذه الذريعة العربية، أو في الأقل لسحب الغطاء الفلسطيني لها.
ففي وقت يقول الرئيس الفلسطيني محمود عباس في خطابه الأخير في الأمم المتحدة، وهو رئيس المنظمة التي يعترف العالم بها ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، إن دولة الاحتلال ارتكبت "إبادة جماعية" ضد شعبه، ويكرر ذكر "النكبة" الفلسطينية خمس مرات، ويصفها بالدولة "العنصرية" سبع مرات، وب"الفاشية" مرتين، وب"دولة الفصل العنصري" مرتين، ويصفها مرة واحدة ب"الإرهاب" (كما أحصاها له الأكاديمي الأميركي – اليهودي ألون بن مئير في مقال له مؤخرا)، ... في وقت كهذا يكون الأوان قد حان لإطفاء الضوء العربي والفلسطيني
الأخضر لاستمرار انتهاك دولة الاحتلال للعمق الاستراتيجي، الإسلامي والآسيوي بخاصة، لدعم القضية الفلسطينية بغطاء عربي وفلسطيني، وهذا أضعف الايمان.
غير أن مسار التوجه العربي الرئيسي حتى الآن لا يبشر بإطفاء هذا الضوء الأخضر في أي مدى منظور، فمجموعة دول الجامعة العربية ما زالت بعيدة عن "أضعف الايمان"، مكرهة وبقصد منها على حد سواء، فالحفاظ على بقاء الأنظمة الحاكمة فيها أهم لديها من "الايمان" بغض النظر عن ضعفه أو قوته.
فالتحالف الدولي – العربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية الذي أعلن عنه مؤخرا ضد "داعش" في العراق وسوريا ليس بحاجة إلى إثبات السر المكشوف بأن دولة الاحتلال عضو أساسي فيه يتم التستر عليه خشية الرأي العام العربي والإسلامي الرافض له، تماما كما حرصت واشنطن على إخفاء عضويتها في التحالف ذاته تقريبا الذي قادته لاحتلال العراق، وهذا تقريبا هو ذات التحالف الذي انعقد تحت اسم "أصدقاء سوريا" للعدوان عليها من أجل "تغيير النظام" فيها، وأعضاء هذا التحالف في الجوهر هم أنفسهم الذين يتكون منهم "معسكر السلام" الذي كان يرعى حتى الآن ما يسمى "عملية السلام" مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ذات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد إيران ومؤخرا ضد الدور الروسي والصيني في الوطن العربي ومحيطه الإسلامي.
وهذا الواقع هو الذي شجع نتنياهو كي يروج مؤخرا، كما جاء في خطابه الأخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لاقتراح قلب "مبادرة السلام العربية" لسنة 2002 على رأسها باقتراح أن يقود مثل هذا التحالف غير المعلن إلى تحقيق "السلام" مع العرب قبل تحقيقه مع عرب فلسطين من أجل مواجهة "الخطر المشترك للمتطرفين الإسلاميين".
وفي هذا السياق لا يسع المراقب العربي إلا أن يتذكر بأن الانتصار الوحيد الذي خرجت به دولة الاحتلال من هزيمتها في العدوان البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي على مصر عام 1956 كان فتح البحر الأحمر أمامها كطريق بحري استراتيجي لها إلى آسيا وإفريقيا، وأن إخراج مصر من معادلة الصراع العربي معها بعد اتفاقيات كامب ديفيد (الثمرة السياسية المرة للانتصار المصري – السوري العسكري في حرب تشرين / اكتوبر عام 1973) أواخر سبعينيات القرن العشرين الماضي، والأهم من ذلك اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية ثم الأردن بها بعد ذلك، إنما كان البوابة السياسية التي فتحت أمامها البر والجو أيضا للبناء سياسيا واقتصاديا وعسكريا وأمنيا على مكسبها البحري الاستراتيجي في البحر الأحمر، على حساب العمق الاستراتيجي للقضية الفلسطينية إسلاميا وآسيويا.