نظرية ميزان القوى لدى غرامشي (3) – التشويه الاقتصادوي للمادية التاريخية
أنطونيو غرامشي أنطونيو غرامشي

نظرية ميزان القوى لدى غرامشي (3) – التشويه الاقتصادوي للمادية التاريخية

«لفهم العلاقات بين القاعدة المادية والبنيان الفوقي، نجد نقطة مرجعية أخرى في (بؤس الفلسفة)، حيث يقول [ماركس] إنّ ثمّةَ طَوراً هامّاً في تطوّر المجموعة الاجتماعية المولودة في ميدان الصناعة، هو الطور الذي لا يعود فيه نضالُ الأعضاء في منظَّمةٍ اقتصاديٍّة-فئويّة نضالاً لمصالحهم الاقتصادية الفئوية الخاصة فقط، بل تطويراً للمنظَّمة نفسها. وبهذا السياق يجدر تذكُّر عبارة إنجلس حول أنّ الاقتصاد هو النابضُ الرئيس للتاريخ (في التحليل النهائي)».

تعريب: د. أسامة دليقان

فهذه العبارة على صلة مباشرة بالمقطع المعروف جيداً في «مقدّمة لـنقد الاقتصاد السياسي» التي تقول إنّه في سَاحِ الإيديولوجيا «يَعي» الناسُ الصراعَ بين الشكل والمحتوى في عالَم الإنتاج. ويجب تذكُّر هذه الصِّلة عند التعامل مع أطروحة أنّ المادية التاريخية أوسع انتشاراً في الفترة الحديثة ممّا يُظَنّ؛ ولكنها تتمظهر في شكل «اقتصادويّةٍ تاريخيّة» [...] وهذا التأويل [بشكل اقتصادويّة تاريخيّة] مرتبطٌ بالخطأ المنهجي الذي تطرّقتُ إليه، المتمثّل بالإخفاق في التمييز بين «الدائم نسبياً» و«المُتقلِّب مرحلياً» عند تحليل الأوضاع الاقتصادية والبنى الاجتماعية [راجع الجزء الأول في عدد «قاسيون» 1186] - وهو تمييزٌ يتطابق، إلى حدّ معيَّن، مع التمييز بين الدولة والحكومة، بين الاستراتيجيا والتكتيك.

هل اكتشافاتُ الطاقة تُحدِّد حركة التاريخ؟

بعض جوانب «الاقتصادويّة التاريخية»: 1- المذهب الذي يختزل التطوّر الاقتصادي إلى تغيُّراتٍ في المُعَدّات التقنية، أمّا ماركس فكان يتحدَّث دوماً عن «قوى الإنتاج المادّية» عموماً، التي تحتوي ضمناً «القوة الجسدية» للبشر [...]. 2- المذهب الذي وفقاً له يَعتمد التطور الاقتصادي والتاريخي مباشرةً على التغيُّرات في عاملٍ إنتاجيٍّ مُهِمٍّ ما، ناجمٍ عن إدخالِ وقودٍ جديد، وبالتالي تطبيق طرائق جديدة [في البناء والتشغيل] للمعدّات الميكانيكية. (كالنفط على سبيل المثال... وحول هذا انظرْ مقال أنطونيو لافريولا عن البترول في مجلة «نوفا أنطولوجيا» 1929، حيث يشير إلى التغيّرات في البناء والنقل وخاصةً المركبات العسكرية، التي جلَبَتْها الوفرة الواسعة للنفط والبنزين، ولكنّه يبالغ في النتائج السياسية الناجمة عن ذلك: فهو يتحدّث عن عصر البترول في مقابل عصر الفحم، إلخ. وقد يكتب شخصٌ آخَرُ عن الأمر نفسه بخصوص الكهرباء، إلخ. ولتوخّي الدقّة نقول إنّ هذه الاكتشافات لأنواعٍ جديدةٍ من الوقود ومصادر الطاقة، تَحملُ أهمّيةً تاريخيّة لأنّها يمكن أنْ تُغيِّـر المكانةَ النسبية للأمم، ولكنها لا تحدّد حركةَ التاريخ).

«العواطف» السياسية وقائعُ اقتصاديّة في النهاية

كثيراً ما يهاجِمُ أناسٌ الاقتصادويّةَ التاريخية ظانّينَ أنهم يهاجمون المادية التاريخية. كما في المثال الآتي من مقالٍ في الدورية الباريسية «أفينير» بتاريخ 10 تشرين الأول 1930، ص2303-2304، حيث نقرأ:
«لطالما قِيلَ لنا منذ زمن طويل، ولكن منذ الحرب خصوصاً، بأنّ قضايا المصلحة الذاتية تتحكّم بالأمم وتُحرِّك التاريخ. هذه الأطروحة اخترعَها الماركسيّون، تحت تَسميةٍ عقائديةٍ نوعاً ما، هي (المادية التاريخية). في الماركسية الصافية، يقوم البشر، كجَمهَرة، بإطاعة الضرورة الاقتصادية وليس عواطفهم. السياسةُ عاطفة. الوطنية عاطفة. ويُقالُ إنّ الدورَ الذي تلعبه في التاريخ هاتان العاطفتان المُلحِّتَان مجرَّدُ سراب، لأنّ حياة الأمم عبر القرون تُفسَّر في الواقع بتفاعلٍ مُتغيِّر ودائمِ التجدُّد للأسباب المادّية. فالاقتصاد هو كلّ شيء. كما أنّ العديد من الفلاسفة والاقتصاديين (البرجوازيين) كرّروا هذه اللازمة الشِّعرية الركيكة. وبعجرفةٍ أخذوا على عاتقهم أنْ يفسّروا لنا السياسةَ الدُّوَلية السَّامِيَة بواسطة تحرُّكات أسعار الحبوب والنفط والمطّاط. واستخدموا عبقريّتَهم ليبرهنوا لنا على أنّ الدبلوماسية محكومةٌ بالكامل بقضايا الضرائب الجمركية وأسعار التكلفة. وتحظى هذه التفسيرات بتشجيعٍ كبير. وتبدو عِلميّةً نوعاً ما، ونابعةً من صِنفٍ من الشكوكية العالية الساعية إلى ذروة الأناقة. الشغف في السياسة الخارجية؟ العواطف في الشؤون الداخلية؟ بالله عليكم! هذا شيءٌ يُلقَى به ليستهلكه الناسُ العاديّون. أمّا العقولُ العظيمة، أولئك ذوو الخبرة، فيعرفون بأنّ كلَّ شيء محكومٌ بالدائن والمَدين. وهذه الآن حقيقةٌ زائفةٌ مطلقة. فليس صحيحاً البتّة بأنّ الناس لا يسمحون لأيّ اعتبارٍ آخر بأنْ يقودهم، غير المصلحة الذاتية؛ ومن الصحيح تماماً بأنهم، أكثر من أيّ وقت، يتّبعون عواطفهم. إنّ المادية التاريخية لَهُراءٌ حقاً. فالأمم تستجيب، بالمقام الأوّل، لاعتباراتٍ تمليها رغبةٌ ما في الهَيبة وإيمانٌ متوقِّدٌ بها. وكلُّ مَن يُخفق في فهم هذا، فإنه لا يفهم شيئاً».
بقية المقال -المُعَنون بـ«هَوَس الهَيبة»- يتخذ من السياسة الألمانية والإيطالية مثالاً ليوضّح المقصود بسياسة «الهيبة» التي لا تمليها مصالحُ مادّية. النصّ مثيرٌ للاهتمام، وإنْ كان لمقالٍ أنْ يُكتَبَ عنه، فينبغي أنْ يحلِّلَه بالتفصيل: فهو يعارِضُ «الاقتصادويّة التاريخية» المُفرِطة [...]. والكاتبُ لا يعرف الفلسفةَ الحديثة، وبالتالي لا يفهم أنّ «العواطف» هي بالضبط وقائعُ اقتصادية.

الدفاع عن الماركسية في التأريخ والسياسة

حالما تَفسُدُ الماديةُ التاريخية بتحويلها إلى اقتصادويّة تاريخية، فإنّها تفقد كثيراً من قدرتها الكامنة على النمو الثقافي لدى الأشخاص الأذكياء، مهما كان مقدارُ ما تكتسبُه لدى المثقفين الكسالى، لدى أولئك الذين يريدون دوماً إعطاء الانطباع بأنهم أذكياء جداً، إلخ. وكما كتب إنجلس، إنها تجعل الكثير من الأشخاص يعتقدون بأنّهم يستطيعون، بتكلفةٍ زهيدة ودونما جهد، دَسَّ كلِّ التاريخ وكلِّ الحكمة السياسيّة في جيبهم. وبذلك يُنسى أنّ أطروحة ماركس -القائلة بأنّ البشر يَعُـوْنَ الصراعات الأساسية في سَاحِ الإيديولوجيا- هي أطروحةٌ تمتلك قيمةً عضوية؛ إنّها أطروحةٌ إبستيمولوجيّة [معرفيّة] أكثر منها سيكولوجيّة أو أخلاقيّة. هذا النسيان يُنتِجُ إطاراً ذهنيّاً يَنظرُ إلى السياسة وكلّ التاريخ وكأنّهما «مسيرةُ حمقى» marché de dupes ومسألةُ ممارسةٍ للخداع وألعابِ الخفّة. وبذلك يُختَزَلُ كلُّ النشاط الثقافي إلى «فَضْحٍ» للخِدَع، وإثارةٍ للفضائح، واعتياشٍ على اقتناص الشؤون الخاصّة للشخصيّات السياسية. كانت أخطاء التفسير فادحةً أحياناً، وأثّرت سلباً على هيبة النظرية الأصلية. ولذا يجب محاربة الاقتصادويّة، لا في نظرية التأريخ فقط، بل وفي السياسةِ كنظريةٍ وممارسة. وبحالة هذه الأخيرة، ينبغي ممارسة النضال في سَاحِ مفهومِ الهيمنة، بطريقة النضال نفسها على المستوى العمليّ في تطوّر نظرية الحزب السياسيّ، وفي التطوّر العملي لحياة أحزابٍ سياسيّة معيَّنة.

نقدُ ابتذالِ السياسة إلى «فضائح شخصيّة»

يمكن إنتاج دراسةٍ تاريخية لتطوّر أحزابٍ سياسية معيَّنة [...] وذلك بخلاف المحاكَمة ذات التعميمِ النمطيِّ المجرَّد وشديد التبسيط الذي تنتهجه الاقتصادويّة التاريخية [...] إنّ التفسير هو فرضيّةٌ تاريخية ممكنة وربّما محتَمَلة، [أمّا] عندما يُطلِقُ حُكماً سياسيّاً، فإنّه يكتسب صِبغَةً أخلاقية. وهنا يكمن الخطأ النظري والعَمليّ. فعندما تتشكَّل حركةٌ من النوع الذي نتكلَّم عنه [حركة سياسيّة]، ينبغي إجراء التحليل على طول الخطوط التالية: 1- المحتوى الاجتماعي للحركة، 2- المَطالب التي يضعها القادة وتنال الرِّضا ضمن شريحة اجتماعية معيّنة، 3- الحاجات الموضوعية التي تعكسها هذه المَطالب، 4- تفحُّصُ كيفية التوافق بين الوسائل المُوَظَّفة والغاية المرسومة، 5- في التحليل النهائي فقط يتم تقديم تلك الفرضية -سياسياً وليس أخلاقياً- القائلة بأنّ حركةً كهذه ستُحرَف عن مسارها بالضرورة لتخدم أهدافاً مختلفةً تماماً عمّا كان في ذهن جماهيرها التابعة. وإلّا فإنّ الإصرارَ المُسبَقَ على هذه الفرضية قَبل تَوفِّرِ عنصرٍ ملموسٍ يدعمُها [...]، هو إصرارٌ يجعلُ الفرضيةَ تبدو اتهاماً أخلاقياً بالازدواجية أو سوء النيّة، أو السذاجة والحماقة، إلخ. مما يحوِّلُ السياسة إلى سلسلةٍ من الفضائح الشخصية. وبالطبع، إلى حين وصول هذه الحركات إلى السلطة، يكون ممكناً دوماً الظنُّ بأنّها حركاتٌ فاشلة، وبعضُها قد فشل في الواقع [...] ولذلك يجب أنْ تهدف الدراسة إلى اكتشاف المَكامِنِ الداخلية لقوّة وضعف هذه الحركات. أمّا الفرضية «الاقتصادويّة» فلا تفعل شيئاً سوى الإعلان عن وجود عنصرِ قوّةٍ ما - كالدعم الماليّ المباشر أو غير المباشر [...]- لكنّ هذا غيرُ كافٍ تماماً. وكما قلتُ، يجب إجراء الدراسة ضِمن نطاقِ مفهومِ الهيمنة.

أعظم مساهمة قدّمها لينين للماركسية

في ضوء ما أسلَفتُ بيانَه -وبالذات البيان بأنّ إصرار ماركس على أنّ البشر يَعُوْن الصراعات الاقتصادية في سَاحِ الإيديولوجيا، يمتلك قيمةً إبستيمولوجيّة [معرفيّة] وليست سيكولوجيّة أو أخلاقية- فإنّه ينبغي اعتبارُ قيمةِ مفهومِ الهيمنة قيمةً إبستيمولوجيّة أيضاً. ينبغي إذن، اعتبارُ هذا المفهوم أعظمَ مساهمةٍ قدّمها إيلييتش [فلاديمير لينين] للفلسفة الماركسية، للمادّية التاريخية - مساهمةً أصيلةً وإبداعيّة. ووفق هذا الاعتبار يكون إيلييتش [لينين] قد دفع الماركسية قُدماً ليس في النظرية السياسية وعلم الاقتصاد فحسْب، بل وكذلك في الفلسفة (أيْ أنّه مِن خلال تطوير النظرية السياسية قد طوَّر الفلسفةَ أيضاً). [هنا تنتهي الملحوظة 38، الدفتر4، من دفاتر سجن غرامشي].

لقراءة الجزء الأول من المقال: نظرية ميزان القوى لدى غرامشي (1) - الاجتماعي والسياسي

لقراءة الجزء الثاني من المقال: نظرية ميزان القوى لدى غرامشي (2) - الميزان العسكري

 

 

 

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1188
آخر تعديل على الإثنين, 19 آب/أغسطس 2024 14:53