«قيصر»... هل يمكن للفرصة أن تتحول إلى كارثة؟!
وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الخميس، 19 كانون الأول 2025، قانون موازنة الدفاع الأمريكية لعام 2026، والذي تضمن إنهاءً كاملاً لقانون العقوبات الأشهر والأقسى على سورية والمسمى «قيصر» ضمن ما أسماه «منح فرصة لسورية».
وبـ «المصادفة البحتة» أعاد التأكيد في اليوم نفسه، خلال احتفاله بعيد «حانوكا» اليهودي في البيت الأبيض، على «منحه» الجولان السوري المحتل لـ«إسرائيل»! وبـ «المصادفة» أيضاً، أصدر قراراً يمنع السوريين من دخول الولايات المتحدة، وهي أمور وقفت عندها وناقشتها افتتاحية قاسيون لهذا العدد، واعتبرتها أوجهاً متعددة لسياسة واحدة. وهنا نناقش الجانب الاقتصادي من المسألة؛ أي ما الذي يمكن أن يترتب على رفع العقوبات، وهل هو فرصة حقاً كما يقول ترامب؟ وهل يمكن للفرصة أن تتحول إلى كارثة؟!
«تدفق الاستثمارات»؟
يعدنا المسؤولون السوريون بأن رفع العقوبات سيفتح الباب أمام تدفق الاستثمارات على سورية من كل حدب وصوب، وكانوا قد وعدونا بذلك مراراً خلال العام المنصرم، بل وتحدثوا عن أرقام بعشرات المليارات قيل: إنها جاءت فعلاً.
الوقائع تقول أشياء أخرى مختلفة تماماً؛ فالعقوبات الأمريكية، وإن كانت عائقاً أمام الاستثمارات، الغربية خاصة، فإن المعيق الأكبر ما يزال الوضع السياسي والأمني للبلاد؛ أي غياب السوق الوطنية الواحدة بحكم تقسيم الأمر الواقع من جهة، ومن جهة أخرى استمرار الفوضى الأمنية خاصة مع التخريب «الإسرائيلي» المستمر، ليس في الجنوب السوري فقط، بل وفي طول البلاد وعرضها، عبر الاستثمار في الفوالق الطائفية والدينية والقومية. يضاف إلى ذلك أن المهمة رقم واحد لخروج البلاد من كارثتها ما تزال بعيدة عن التحقيق حتى اللحظة، أي توحيد السوريين بغض النظر عن قومية أو دين أو طائفة، والطريق الوحيد لتحقيق ذلك هو مؤتمر وطني عام شامل وكامل الصلاحيات، يضع السوريون على طاولته كل مشكلاتهم المتراكمة، ويتوافقون على حلول لها، بما في ذلك شكل دولتهم المستقبلي، وجيشهم وأمنهم ودستورهم واقتصادهم وإلخ، بعيداً عن الاستئثار وعن عقلية الغلبة، وبعيداً عن تقسيم السوريين بين أقليات وأكثريات، وبالتالي مواطنين من درجة أولى ومواطنين من درجة ثانية...
دون وضع سياسي وقانوني مستقر، تتوحد السوق السورية على أساسه، وتتوحد الجغرافيا، ويتوحد السكان، ويتم ضبط الأوضاع الأمنية بشكل حقيقي انطلاقاً من التوافق والتفاهم بين السوريين، فإن رؤوس الأموال لا يمكنها أن تتدفق على البلاد، إلا ضمن شروط ومعايير محددة يمكنها فعلاً أن تحول ما يجري تسميته فرصة إلى كارثة متكاملة الأوصاف... كيف؟
الفرصة حين تتحول إلى كارثة
المثال الملموس الذي يمكن أن نراه حول «تدفق الاستثمارات»، هو العقود التي جرى الحديث عنها بما يخص بناء محطات كهربائية جديدة، وإعادة تأهيل محطات موجودة، عبر رؤوس أموال أجنبية.
الملموس في هذه العقود، أنه جرى رفع تسعيرة الكهرباء بشكل فلكي، ولم يتم التراجع ولو جزئياً عن ذلك الرفع، رغم الرفض الشعبي الواضح، ما يفتح الباب للتفكير بأن التسعيرة الجديدة هي شرط الشركات المستثمرة؛ أي إن الشركات الخارجية دخلت بسرعة كبيرة إلى واحد من أهم الملفات السيادية في البلاد، ملف الكهرباء وتسعيرها، والذي يحدد في نهاية المطاف، ليس فقط تكاليف الوصل الكهربائي المنزلي ويجعلها بعيدة عن متناول 90% من السوريين، بل ويحدد أيضاً تكاليف الإنتاج في البلاد، سواء منه الصناعي أو الزراعي، ويدخل في رفع أسعار كل البضائع على الإطلاق، لأن الكهرباء تدخل حكماً في كل عملية إنتاج، بل وفي كل عملية تجارة وتبادل وتوزيع.
ما يعني أن رفع أسعار الكهرباء بهذه الطريقة، هو قرار إعدام بحق الإنتاج المحلي عبر رفع تكاليفه بشكل هائل، يجعله غير قادر على المنافسة نهائياً، خاصة وأن هذا التوجه يتضمن فتح الحدود على البضائع الأجنبية، دون أي حماية حقيقة للمنتج السوري، ناهيك عن عمليات رفع الدعم عن الزراعة والصناعة.
جوهر «الفرصة الأمريكية»
إذا أردنا فهم جوهر ما يسميه الأمريكان فرصة لسورية، فينبغي أن نجمع عدة عوامل مع بعضها البعض:
أولاً: عمليات رفع الدعم عن الصناعة والزراعة (بما يتوافق مع توصيات صندوق النقد والبنك الدوليين).
ثانياً: إنهاء أي شكل من أشكال الحمائية الاقتصادية للمنتج السوري (بما يتوافق مع توصيات صندوق النقد والبنك الدوليين).
ثالثاً: الخصخصة الجزئية أو الكاملة، المعلنة أو غير المعلنة للقطاعات الاقتصادية السيادية في سورية، وعلى رأسها الكهرباء، ناهيك عن الموانئ والمرافئ وما تبقى من قطاع الدولة، بما في ذلك الاتصالات (بما يتوافق مع توصيات صندوق النقد والبنك الدوليين).
رابعاً: تقليص الخدمات العامة، وتقليص عمليات التوظيف، وتخفيض حجم ووزن ودور جهاز الدولة في مختلف العمليات الاقتصادية- الاجتماعية بحجة التضخم (بما يتوافق مع وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين).
خامساً: هنالك أيضاً الجانب السياسي الذي لا يمكن إغفاله، وإنْ لم يكن مكانه في هذه المادة، والذي يتضمن تموضعاً سياسياً محدداً لسورية، وتموضعاً سياسياً محدداً داخل سورية نفسها، بحيث يتم تعظيم الانقسامات الداخلية باتجاه تفجيرها...
والنتيجة؟
النتيجة، هي أن ما يتم تسميته فرصة يجري إعطاؤها لسورية، هو في الحقيقة تجهيز لكارثة؛ فالامتثال لوصفات صندوق النقد والبنك الدولي الاقتصادية، والتماشي مع السياسات الأمريكية في منطقتنا، يعني بالمحصلة مزيداً من إفقار السوريين وتهميشهم، ويعني ضمناً مزيداً من الفساد الكبير، والذي لا يمكن له أن يعيش دون قمع الحريات السياسية بدرجات أعلى... والسير الاقتصادي الذي نراه، هو استكمال للوصفات الليبرالية المتوحشة التي كانت تطبقها سلطة الأسد، ولكن بسرعة أعلى... وتكرار التجربة نفسها سيؤدي بطبيعة الحال لنتائج مختلفة، لأن الظروف تغيرت، وهذه النتائج ستكون أكثر كارثية مما جرى سابقاً...
وما العمل؟
هل يعني ذلك أن رفع العقوبات أمر سلبي؟ على الإطلاق... رفع العقوبات هو حق للشعب السوري وليس مِنّة عليه؛ فالعقوبات كانت دائماً موجهة ضد سورية والشعب السوري، وليس ضد هذه السلطة أو تلك، بل إن سلطة الأسد استفادت من العقوبات فأحكمت سيطرتها على كل شيء في البلاد، وزادت من معدلات نهبها للسوريين.
ورفع العقوبات يمكن أن يكون فرصة فقط إن بنينا نموذجاً اقتصادياً مخالفاً لوصفات صندوق النقد والبنك الدوليين؛ يمكننا الاستفادة من رؤوس أموال خليجية أو صينية أو تركية أو غير ذلك، ولكن ضمن رسمة جديدة للاقتصاد السوري، مختلفة عن الرسمة التي فرضها الأسد لمصلحة الفاسدين الكبار الداخليين، وشركائهم الخارجيين. وصفة تقوم على الإنتاج، وعلى شكل جديد من توزيع الثروة لمصلحة 90% من السوريين.
أما السير في الطريق الأمريكي، فهو محكوم بتحويل أي فرصة إلى كارثة، وتحويل أي كارثة إلى كارثة أكبر وأشد خطراً ووطأة...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1257