عقلية «الحزب القائد» دمرت البلاد... ويجب التخلص منها قبل أن تقتلها!
عماد طحان عماد طحان

عقلية «الحزب القائد» دمرت البلاد... ويجب التخلص منها قبل أن تقتلها!

يعتصر الألم قلوب الوطنيين السوريين، في السويداء وفي كل سورية، حين يرون علم الاحتلال مرفوعاً في إحدى ساحات البلاد، وحين يسمعون ارتفاع أصواتٍ تطالب بالانفصال عنها؛ يعتصرهم الألم وهم يعلمون جيداً أن المجازر المروعة التي ارتكبت خلال الأشهر الثمانية الماضية، وخاصة على أسس طائفية ودينية، قد ساهمت مساهمة أساسية في فتح الطريق أمام ارتفاع تلك الأصوات، وأمام انكسارٍ وجرحٍ كبير في صميم الوطنية السورية، سيستغرق وقتاً غير قصير حتى يتماثل للشفاء.

أسهل وأخطر ما يمكن القيام به اليوم، هو الانزلاق نحو تخوين الناس جملةً، ونحو المزيد من التهديد والتحريض والتهويل. وأسهل وأخطر ما يمكن القيام به أيضاً، هو افتراض أن المناداة بالانفصال، أو الاستجارة بـ«الإسرائيلي»، ستشكلان حلاً ومخرجاً يأمن الناس فيه على أرواحهم وأرزاقهم؛ والحقيقة أن الطرحين المتعاكسين ظاهرياً يقودان نحو نتيجة واحدة هي المزيد من الدماء والخراب والفقر وانعدام الأمن.

رغم الضغط الهائل الذي تلقيه اللحظة الراهنة، بصعوباتها ومآسيها، على كاهل السوريين، فإن فهماً متأنياً موضوعياً وإنسانياً لما يجري، بعيداً عن النزق والغضب ورد الفعل، هو ضرورة قصوى للخروج من المستنقع الآسن الذي نخوض فيه.

بين الأمور التي تحتاج تفسيراً عميقاً: ما الذي أوصل الأمور إلى مشهدٍ نرى فيه العلم «الإسرائيلي» مرفوعاً في السويداء ومع مطالب بالانفصال عن سورية؛ السويداء التي أخرجت لسورية سلطان باشا الأطرش وآلاف القامات الوطنية السورية عبر الأجيال المتعاقبة، والتي شكلت طوال الوقت جزءاً صميمياً وجوهرياً من الهوية السورية، ومن الوطنية السورية؟

محاولة تفسير المسألة بالشهرين الأخيرين، وما جرى فيهما من مجازر وحصار، هو أقرب ما يمكن أن يرد إلى الذهن، ولكنه بالتأكيد ليس كل المسألة؛ فالموضوع أبعد وأكبر...

عملية تجريف الانتماء الوطني السوري، والإساءة للهوية الوطنية السورية، بدأت قبل المجازر بزمن طويل، وقبل 2011 بعدة عقود؛ بدأت بشكل ملموس مع تسيد عقلية «الحزب القائد»، الذي همّش الحياة السياسية للمجتمع بشكل تدريجي، وخفض رتبته من مجتمع إلى «رعية» يُفرض عليها اتباع الراعي والتمثل به.

المصيبة الكبرى، أن «الراعي» أي حافظ الأسد في حينه وبعده بشار الأسد، قد أساءا للقضية الوطنية بكل شكل ممكن، بالضبط عبر المتاجرة بها؛ فباسم فلسطين، وباسم العداء لـ«إسرائيل»، جرى قضم الحريات السياسية، ورفع درجات القمع الأمني إلى الحدود القصوى، وجرى أيضاً نهب الناس وإفقارهم بشكلٍ تدريجي متصاعد.

الهوية الوطنية في نهاية المطاف، ترتكز على ثلاث ركائز معاً.

  1. الجانب الوطني العام، الذي يحدد الأعداء والأصدقاء.
  2. الجانب الاقتصادي-الاجتماعي، الذي يحدد نمط توزيع الثروة في البلاد.
  3. الجانب الديمقراطي، الذي يحدد مساحة الحريات السياسية، وشكل ممارسة السلطة؛ والركائز الثلاث هذه مرتبطة ببعضها ارتباطاً شديداً لا يمكن فصله.

حين يجري الهجوم على لقمة الناس وكرامتهم، أي على الجانب الاقتصادي- الاجتماعي والجانب الديمقراطي، باسم الجانب الوطني، فإن وحدة المجتمع والبلاد بأسرها تصبح تحت التهديد؛ وهذا بالضبط ما جرى في سورية طوال عقود متواصلة، إلى الحد الذي بات معه الكلام الوطني في مسامع الناس «كلاماً خشبياً»، ليس لأنه خاطئ، بل لأنه بات بالنسبة لهم نظيراً ملازماً للنهب والقمع الذي تمارسه السلطات عليهم.

بعد 2011، باتت الأمور أشد سوءاً وخطورة؛ فقد غرق السوريون بدماء بعضهم البعض، وطُبقت عليهم حملات تحريض هائلة بكل الاتجاهات. وزاد الأمر سوءاً مع تعمق التدخلات الخارجية المختلفة، بما فيها التدخل «الإسرائيلي» الذي لم يكن حربياً فقط، بل ربما كان جزؤه الأهم والأخطر هو الجزء الإعلامي-النفسي، الذي اشتغل على الثغرات الكبرى بشكل تراكمي طويل الأمد، بحيث قوّض الفكرة الوطنية في عقول كثيرين بشكل تدريجي، مستنداً إلى/ ومستثمراً في، الدماء والخراب والنهب والقمع الداخلي.

وماذا عن اليوم؟

بعد 8 كانون الأول 2024، وفرار بشار الأسد، وانهيار سلطته، واستلام السلطة الجديدة لمقاليد الأمور، تنفس السوريون الصعداء مؤقتاً، على أمل أن يكون ذلك بداية لطوي صفحة سوداء من تاريخ بلادهم، وفتح صفحة جديدة عنوانها البناء والازدهار والأمان.

ما وضحته الأشهر المنصرمة، هو أن هذا الأمل قد تلقى طعنات كبرى، في الساحل وفي السويداء وفي أماكن أخرى، وفي الاقتصاد والسياسة على حد سواء... والعلة القائمة ما تزال هي هي؛ عقلية الحزب القائد التي لا تريد مشاركة أحد، وتريد الاستفراد والاستئثار بمصير البلاد وأهلها، بما يشعر الناس بشكل متعاظم بأنهم مرة أخرى «رعايا» وليسوا مجتمعاً، وبأنهم تابعون وليسوا أحراراً محفوظي الكرامة في بلدهم، وليسوا مشاركين في تقرير مصيرهم، بل هنالك من يقرر نيابة عنهم.

هذه العقلية، سبق أن دمرت سورية، وهجرت نصف شعبها، وأفقرتها، وأدمتها... واليوم يمكنها- إن استمرت- أن تقتل البلاد عبر قتل وحدتها الجغرافية السياسية والسكانية.

ما ينبغي أن يكون مفهوماً وواضحاً، هو أن عملية الانتقال السياسي الحقيقي لم تبدأ بعد، وأن ما سقط حتى اللحظة هو السلطة لا النظام؛ وأن المطلوب هو تغيير النظام تغييراً جذرياً شاملاً، اقتصادياً اجتماعياً وسياسياً، للسماح لسورية بأن تتنفس الصعداء حقاً، وأن تستعيد لُحمتها بشكل حقيقي، كبلد لكل أبنائه بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو القومية أو الجنس.

نقطة الانطلاق في عملية التغيير الجذري الشامل، هي مؤتمر وطني عام يتم عقده في أسرع وقت، وبأحسن تجهيز، ويكون صاحب القرار، وينتج حكومة وحدة وطنية شاملة ودستوراً دائماً وصولاً لانتخابات حرة ونزيهة. وهذه الخطوات هي عملياً جوهر القرار 2254، الذي وإنْ كان تعبيراً عن درجة التدويل التي وصلت لها المسألة السورية نهاية عام 2015، إلا أنه في الوقت نفسه نقطة الانطلاق نحو العودة من التدويل إلى الحل المحلي السوري- السوري...

أسهل ما يمكن القيام به هو التخوين والدفع نحو مزيد من الدماء... وأصعب ما يمكن القيام به اليوم، (ولكنه الشيء الوحيد الصحيح والذي يصب في مصلحة الناس ويحقن دماءهم ويحفظ كراماتهم)، هو أن يعمل السوريون نحو استكمال إسقاط السلطة، بتغيير النظام تغييراً جذرياً شاملاً، وعبر بوابة المؤتمر الوطني العام!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1239