ما هو مستقبل «دولة الرفاه» الأوروبية في ظل 5% إنفاق دفاعي؟
يوم 9 حزيران الجاري، وفي ختام كلمة له في تشاتام هاوس في لندن، قال مارك روته، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي- الناتو، موجهاً كلامه للأعضاء الأوروبيين ضمن الناتو: «إذا لم ترفعوا الإنفاق إلى 5%، بما في ذلك 3.5 % للدفاع، يمكنكم أن تبقوا على أنظمتكم الصحية وأنظمتكم التقاعدية، ولكن من الأفضل أن تتعلموا اللغة الروسية».
ليس من الصعب تفسير معنى التصريح؛ فهو يقول بشكل مباشر تقريباً، إما أن ترفعوا ميزانيات الدفاع والتسلح بشكل كبير وسريع ضمن ما أسماه quantum leap أي قفزة نوعية (أو حتى كمومية)، فسيكون بإمكانكم الحفاظ على «دولة الرفاه» ولكن تحت الاحتلال الروسي أو النفوذ الروسي. وبعبارات أخرى، فإن روته يقول للأوروبيين، عليكم التخلي عن نموذج دولة الرفاه التي ترعى مواطنيها، وعليكم تحمل العواقب الاجتماعية.
الطريف في المسألة هو أن الـ5% من الناتج المحلي الإجمالي التي يتحدث عنها روته، مقسمة مسبقاً، وفقاً لتصريحاته، بين بندين أساسيين: 3.5% تسلح، و1.5% (للأمن الداخلي والبنى التحتية اللازمة له)، أي لقمع واحتواء الاحتجاجات الشعبية التي ستتوسع بالضرورة مع زيادة الإنفاق الدفاعي على حساب الإنفاق الاجتماعي.
سنناقش في هذه المادة، وبشكل أولي جداً، الأثر الاجتماعي المتوقع لرفع الإنفاق الدفاعي في دول أوروبا الأعضاء في الناتو، وذلك ضمن المحاور التالية:
أولاً: الوضع الحالي للإنفاق الدفاعي الأوروبي.
ثانياً: الوضع الحالي لهيكل الإنفاق الحكومي ضمن أوروبا.
ثالثاً: كم ستبلغ نسبة الإنفاق الدفاعي مع 5%؟
رابعاً: كيف سيتغير هيكل الإنفاق الحكومي؟
خامساً: ما هي الآثار الاجتماعية والسياسية المتوقعة؟
خلاصة
* * *
أولاً: الوضع الحالي للإنفاق الدفاعي الأوروبي
يقدم الجدول التالي (أرقام عام 2024)، صورة مكثفة عن الوضع الحالي للإنفاق الدفاعي ضمن أكبر خمسة اقتصادات أوروبية موجودة ضمن الناتو، وهي ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، إسبانيا، وفي الصف الأخير منه يقدم مجموعاً إجمالياً تقريباً لكل الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو.
الإنفاق الدفاعي (% من الإنفاق الحكومي) |
الإنفاق الدفاعي (% من GDP) |
حجم الإنفاق الدفاعي (مليار دولار) |
حجم الإنفاق الحكومي (ترليون دولار) |
الناتج المحلي الإجمالي (ترليون دولار) |
الدولة |
4.37 |
2.12 |
100 |
2.30 |
4.745 |
ألمانيا |
4.13 |
2.05 |
65 |
1.57 |
3.16 |
فرنسا |
5.18 |
2.28 |
87.5 |
1.69 |
3.84 |
بريطانيا |
3.23 |
1.61 |
58 |
1.79 |
3.598 |
إيطاليا |
3.60 |
1.51 |
26 |
0.722 |
1.722 |
إسبانيا |
4.38 |
2.02 |
383 |
8.73 |
18.97 |
مجموع أوروبا (ناتو) |
يوضح الجدول السابق أن وسطي الإنفاق الدفاعي الحالي في أوروبا هو نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي، والمطلوب أمريكياً (أو من قيادة الناتو) هو رفعه إلى 5%.
النسب المطلوبة، تصبح أكثر وضوحاً حين يتم نسبها ليس إلى الناتج المحلي الإجمالي، ولكن إلى إجمالي الإنفاق الحكومي؛ حيث يشكل الإنفاق الدفاعي بين 3-6% من إجمالي الإنفاق الحكومي في الدول الأوروبية، ويشكل فعلياً أكثر من ضعف النسبة من الناتج المحلي الإجمالي التي يجري الحديث عنها.
هذا التمييز ضروري جداً حين يكون الموضوع هو نقاش الآثار الاجتماعية لرفع الموازنات الدفاعية؛ فحين نتحدث عن 5% من الناتج الإجمالي، فإن الكلام يجري فعلياً عن أكثر من 10% من الإنفاق الحكومي يذهب للإنفاق الدفاعي، وبالتأكيد سيكون هذا على حساب أبواب الإنفاق الاجتماعي الأخرى...
ثانياً: الوضع الحالي لهيكل الإنفاق الحكومي ضمن أوروبا
الأبواب الخمسة الأكثر وزناً وأهمية ضمن الإنفاق الاجتماعي للحكومات الأوروبية، تتوزع بالشكل التالي (وسطياً):
ملاحظات |
نسبة تقريبية من الإنفاق الحكومي |
الباب |
الترتيب |
يشمل معاشات التقاعد، الإعانات العائلية، إعانات البطالة، المساعدات الاجتماعية |
25–35 % |
الضمان الاجتماعي والتقاعد |
1 |
تمويل المستشفيات، التأمين الصحي العمومي، الأدوية، الخدمات الطبية |
10–20 % |
الصحة |
2 |
من التعليم الابتدائي حتى الجامعي، يشمل أجور المعلمين والبنية التحتية |
8–15 % |
التعليم |
3 |
تسديد فوائد القروض السيادية |
5–10 % |
خدمة الدين العام (الفوائد) |
4 |
الجيش، التسلح، الأمن الوطني |
3–6 % |
الدفاع |
5 |
الجدول السابق، يشرح بشكل ملموس وعملي، المعنى العميق للتوصيف الشهير (دول الرفاه الاجتماعي)؛ حيث تنفق الحكومات الأوروبية بين (43-70)% من إجمالي إنفاقها، أي (19.8-32)% من الناتج المحلي الإجمالي على ثلاثة أبواب هي التأمينات الاجتماعية، الصحة، التعليم. (ربما من المفيد بالنسبة للقارئ السوري أن ينظر إلى هذه النسب حين يتم الحديث عن «الاقتصاد الحر» وعن «الخصخصة» وإلخ، بالتوازي مع رفع الدعم وإنهاء دور الدولة الاجتماعي... أليس النموذج الأوروبي هو الذي يجري توجيه الأنظار نحوه؟ إذاً فالدولة ينبغي أن تلعب دوراً اجتماعياً وزنه ثلث الناتج المحلي الإجمالي، على العكس تماماً من النموذج الذي يجري الدفع نحوه، وهو تخلي الدولة عن أي دور اجتماعي على الإطلاق...).
ثالثاً: كم ستبلغ نسبة الإنفاق الدفاعي مع 5%؟
سنعيد في هذه الفقرة رسم الجدول الأول، مع افتراض أن الدول الأوروبية العضوة في الناتو خضعت للطلب الأمريكي.
الإنفاق الدفاعي (% من الإنفاق الحكومي) |
الإنفاق الدفاعي (% من GDP) |
حجم الإنفاق الدفاعي (مليار دولار) |
حجم الإنفاق الحكومي (ترليون دولار) |
الناتج المحلي الإجمالي (ترليون دولار) |
الدولة |
10.3 |
5 |
237 |
2.30 |
4.745 |
ألمانيا |
10 |
5 |
158 |
1.57 |
3.16 |
فرنسا |
11.3 |
5 |
192 |
1.69 |
3.84 |
بريطانيا |
10 |
5 |
180 |
1.79 |
3.598 |
إيطاليا |
11.9 |
5 |
86 |
0.722 |
1.722 |
إسبانيا |
10.8 |
5 |
949.5 |
8.73 |
18.97 |
مجموع أوروبا (ناتو) |
يوضح الجدول السابق، أن رفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، سيجعل نسبة الإنفاق الدفاعي من إجمالي الإنفاق الحكومي بحدود 11%، وبحجم يقترب من ترليون دولار سنوياً. مع الانتباه إلى أن هنالك فوارقَ كبيرة ستظهر بين الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو، خاصة الدول الأغنى مع الدول الأكثر فقراً، بما يخص هيكل الإنفاق الاجتماعي ومدى تأثر الأدوار الاجتماعية للدول، وبالتالي مدى تضرر الأغلبية الساحقة من الناس.
رابعاً: كيف سيتغير هيكل الإنفاق الحكومي؟
زيادة الإنفاق الدفاعي، ستقلل بالضرورة من الإنفاق على الأبواب الأخرى الأساسية للإنفاق الحكومي. بالنسبة للإنفاق على خدمة الدين العام، لا يمكن أن نتوقع انخفاضه بل ينبغي توقع زيادة الإنفاق في هذا البند، لأن الحكومات ستلجأ لمزيد من الاقتراض لتأمين الموارد المطلوبة. مع ذلك، وبافتراض أن خدمة الدين العام بقيت على حالها، فإن النقص سيتم توزيعه على الأبواب الثلاثة الأولى. وفي حال تم توزيعه بالتساوي عليها، نصبح أمام الصورة التالية:
ملاحظات |
نسبة تقريبية من الإنفاق الحكومي |
الباب |
الترتيب |
يشمل معاشات التقاعد، الإعانات العائلية، إعانات البطالة، المساعدات الاجتماعية |
22.7–33 % |
الضمان الاجتماعي والتقاعد |
1 |
تمويل المستشفيات، التأمين الصحي العمومي، الأدوية، الخدمات الطبية |
7.7–18 % |
الصحة |
2 |
من التعليم الابتدائي حتى الجامعي، يشمل أجور المعلمين والبنية التحتية |
5.7–13 % |
التعليم |
3 |
تسديد فوائد القروض السيادية |
5–10 % |
خدمة الدين العام (الفوائد) |
4 |
الجيش، التسلح، الأمن الوطني |
10-12% |
الدفاع |
5 |
خامساً: ما هي الآثار الاجتماعية والسياسية المتوقعة؟
رفع ميزانيات الدفاع إلى أكثر من الضعف، يعني بالضرورة تطبيق «سياسات تقشفية»، وعادة فإن تعبير سياسات تقشفية يخص طبقات محددة ضمن المجتمع، فالتقشف هنا لن يكون تقشف أصحاب الأرباح والمصرفيين وإلخ، ولكنه سيكون تقشف العمال والمهاجرين، وتقشف الدولة في الإنفاق عليهم.
أشرنا سابقاً إلى البنود الثلاثة الأهم ضمن الإنفاق الاجتماعي للحكومات الأوروبية (التأمينات الاجتماعية والتقاعد والصحة والتعليم) وهي تشكل نحو (43-70)% من إجمالي الإنفاق الحكومي، وباعتبار أن نسبة الإنفاق الدفاعي سترتفع من (3-6)% إلى (10-12)% من إجمالي الإنفاق الحكومي، فإن الإنفاق الاجتماعي الحكومي سينخفض إلى (36-68)% من إجمالي الإنفاق، أي أنه سينخفض بنسبة تفوق 8%.
ارتفع التضخم التراكمي الوسطي في أوروبا خلال الفترة من 2021 إلى 2025 بنسبة 23%، أي أن القيمة الفعلية للإنفاق الاجتماعي قد انخفضت فعلياً بنسبة 18.7% وذلك قبل أي رفع إضافي للإنفاق الدفاعي... مع رفع الإنفاق الدفاعي فإن الانخفاض الفعلي لقيمة الإنفاق الاجتماعي سيتجاوز الربع.
ما الخيارات التي تملكها الحكومات الأوروبية لاختصار الإنفاق الاجتماعي؟
- الدفع باتجاه قوانين ترفع سن التقاعد في عدد من الدول الأوروبية، لتخفيض الإنفاق على بند التقاعد والتأمينات الاجتماعية.
- سيجري تضييق إضافي على المهاجرين واللاجئين وتقليص النفقات الاجتماعية عليهم.
- تخفيض الإنفاق على التعليم وعلى البنى التحتية المرتبطة به.
- تخفيض الإنفاق على البحث العلمي.
- تخفيض الإنفاق على البنى التحتية المرتبطة بالقطاع الصحي، وعلى الأدوية والعلاج.
هذه الباقة المكونة من خمسة عناصر، هي جزء من باقة أوسع بكثير من الإجراءات ستكون الحكومات الأوروبية مجبرة على اتباعها كلها أو اختيار الأقل كلفة سياسية بينها، مع العلم أن أياً منها كفيل لوحده بإحداث اضطراب سياسي كبير، فكيف إذا تم تطبيق أكثر من عنصر في وقت واحد...
خلاصة:
إن الإصرار الأمريكي على رفع موازنات الدفاع في أوروبا، تعني ضمناً الأمور التالية:
أولاً: انتحار سياسي للحكومات الأوروبية التي ستمشي في هذا الطريق، ما سينتج بنية سياسية مختلفة بالكامل عما نراه حالياً، بما في ذلك صعود لكل من اليمين واليسار على حساب الحكومات الحالية اليمينية بطبيعتها، ولكن المرتبطة بشدة بالولايات المتحدة الأمريكية، وبالفيدرالي الأمريكي والمركزي الأوروبي.
ثانياً: اضطرابات سياسية واجتماعية بالجملة.
ثالثاً: مزيد من هجرة رؤوس الأموال خارج أوروبا باتجاه الشرق والغرب.
رابعاً: استمرار القطيعة والتوتر مع روسيا وارتفاعهما، وبالتالي استمرار التدهور الاقتصادي بسبب ارتفاع التكاليف (تكفي مسألة الطاقة وحدها).
خامساً: أرباح إضافية للولايات المتحدة عبر رفع درجة اعتماد أوروبا عليها كمصدر للطاقة، بديلاً عن روسيا، وبأسعار فلكية.
سادساً: زيادة أرباح شركات السلاح الأمريكية التي ستبتلع جزءاً مهماً من الإنفاق الدفاعي الأوروبي.
سابعاً: ينبغي ألا نستثني احتمال انقلابات سياسية كبرى في أوروبا، ليس باتجاه إنهاء الاتحاد الأوروبي فحسب، أو باتجاه صعود يميني فاشي كما يجري الترويج، بل وأيضاً باتجاه مختلف تماماً يعيد تموضع أوروبا ضمن الصراع العالمي، بالضد من الولايات المتحدة، وأقرب إلى الصين وروسيا... وضمناً، ينبغي ألا نستثني أيضاً احتمال صعود مدوٍ ليسار جذري يعيد النظر في مجمل علاقات الإنتاج والنمط الاقتصادي-الاجتماعي في أوروبا...
كل الاحتمالات مفتوحة... الاحتمال الوحيد المغلق هو أن تبقى أوروبا على حالها الذي نعرفه!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 0000