كيف ومتى سينسحب العسكر الأمريكي من سورية؟
بدأ الحديث عن انسحاب محتمل للعسكر الأمريكي من سورية منذ عام 2018، وتحديداً يوم 19 كانون الأول، خلال ولاية ترامب الأولى، وعبر تغريدة أعلن فيها الانتصار على داعش وأن الوقت حان لانسحاب «سريع وكامل» لألفي جندي أمريكي من سورية.
انقضت ست سنوات كاملة بعد هذا التصريح، ولم يحدث الانسحاب «السريع والكامل» حتى الآن. وبين التفاصيل العديدة التي مرت خلال هذه السنوات، أن ما يمكن تسميته «جهاز الدولة العميق» في الولايات المتحدة، قد أعاق ومنع عملية الانسحاب، وكشف عن ذلك في وقت سابق جيمس جيفري المبعوث الأمريكي الخاص لسورية ولقوات التحالف الدولي-الأمريكي لمحاربة داعش، الذي صرح في لقاء معه نشر في تشرين الثاني 2020 في موقع defense one بأن البنتاغون أخفى العدد الحقيقي للجنود الأمريكيين في سورية عن ترامب، ولم ينفذ أوامره بالانسحاب.
ما الجديد؟
بين ولاية ترامب الأولى وولايته الثانية، وبين سورية نهاية 2018 وسورية منتصف 2025، يمكن تسجيل كم هائل من المتغيرات، على رأسها ما يلي:
أولاً: التناقض الداخلي بين تيارين كبيرين داخل الولايات المتحدة، أحدهما انكفائي، والآخر رافض للانكفاء، قد وصل ذروة جديدة غير مسبوقة، بات فيها الصراع شاملاً ليس فقط للسياسات الأمريكية خارج الولايات المتحدة، بل وضمنها بشكل مباشر، بما في ذلك الهجوم الذي يشنه ترامب على الأجهزة الفيدرالية، وعلى البنك الفيدرالي نفسه، بوصفه مركزاً أساسياً من مراكز سلطة التيار الرافض للانكفاء.
ثانياً: يجري هذا الصراع على خلفية تراجع عام لموقع وقوة الولايات المتحدة على المستوى العالمي، والذي يعبر عن نفسه بعدد هائل من المؤشرات؛ من الوضع الاقتصادي العالمي الذي تتراجع فيه مجموعة السبعة الغربيين، ليقتصر إسهامها في الناتج العالمي على 29% مقابل إسهام بريكس بحوالي 37% منه، إلى التناقضات بين الغربيين أنفسهم، وخاصة بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، ومروراً بالمؤشرات العسكرية، بما في ذلك أوكرانيا، ومن ثم التفاوض مع إيران حول النووي، وصولاً إلى الخسائر الغربية في أفريقيا، في النيجر ومالي وبوركينا فاسو وغيرها الكثير من المؤشرات...
ثالثاً: في منطقتنا، تجري عملية إعادة تموضع تاريخية تشكل قطعاً مع 100 عام مرت من الصراعات البينية بين دول المنطقة. أفضل تعبير عن هذا الأمر هو التسويات التي جرت بين السعودية وإيران، وبين تركيا ودول الخليج العربي ومصر، وتبخر مشروع «الناتو العربي»، ومؤخراً مبادرة أوجلان لحل القضية الكردية في تركيا، ما يفتح الباب لإغلاق جرح مفتوح في كامل منطقتنا، كان أداة أساسية في التدخلات الخارجية وتغذية الصراعات البينية.
رابعاً: في سورية، سقط الأسد، وسقطت معه أوهام كثيرة حول الدور الأمريكي في سورية، خاصة مع إصرار واشنطن على إبقاء العقوبات، التي بات مفهوماً بالنسبة لكل السوريين أنها عقوبات على سورية والشعب السوري أولاً وأخيراً، وأداة ابتزاز وإضعاف عامة لكل السوريين.
متى وكيف سيتم الانسحاب؟
ضمن هذه الإحداثيات، يصبح من المنطقي توقع انسحاب القوات الأمريكية في وقت غير بعيد، ولكن الطريقة والتوقيت ستعتمد على عوامل متعددة، أهمها: محاولة الولايات المتحدة الاستفادة من وجودها ومن انسحابها في تحقيق ما تريد في سورية.
وما الذي تريده واشنطن في سورية؟ بالتأكيد ليس الديمقراطية ولا حماية أقليات أو أكثريات. الحد الأدنى الذي تريده واشنطن هو إعاقة مشاريع الصين وروسيا في مجمل منطقتنا، وهذه المشاريع تتناقض مع «مشروع الشرق الأوسط الإسرائيلي» لأنها تتطلب استقراراً وتعاوناً بين دول المنطقة، على عكس ما يريده «الإسرائيلي».
وإذاً، ما الذي يمكن توقعه؟
الوجود العسكري الأمريكي، حتى وإن حافظ على 100 جندي، فإن تأثيره ليس على الأرض بالدرجة الأولى بل في السماء؛ أي عبر منطقة الطيران الاحتكارية التي يسيطر عليها الأمريكان من سورية، بوصفها «غطاء» لوجود عسكرهم على الأرض. هذه السيطرة الجوية على جزء مهم من المجال الجوي السوري، هي أداة أساسية من وجهة نظر الأمريكي في التحكم بسير الأمور في سورية.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، يمكن التنبؤ بأن «الحل الوسط» بين التيارين المتناقضين في الداخل الأمريكي، يمكن أن يكون انسحاباً جزئياً، ولكن انسحاباً يؤدي إلى إطلاق يد داعش مجدداً في البادية السورية، بطريقة مشابهة لتلك التي جرت في الموصل أيام أوباما.
إطلاق يد داعش مجدداً، وبشكل مضبوط، يمكنه أن يعيد إنتاج الفوضى في البلاد بأسرها، بما في ذلك عبر تعميق التناقضات داخل الإدارة الجديدة في سورية، عبر الاستناد إلى الاختراقات المختلفة، وعبر الاستناد الأيديولوجي إلى العقول الحامية والمتطرفة، والتي لا ترى في سورية مشروع وطن، بل محطة مؤقتة على درب «جهاد عالمي» ...
وما المخرج؟
المخرج الوحيد الممكن، الذي من شأنه تطويق حالة التفجير التي يمكن للأمريكان أن يدفعوا نحوها، بانسحابهم الجزئي أو الكامل، يتمثل بمجموعة من النقاط، أهمها:
أولاً: التخلص بأسرع وقت ممكن من الوهم القاتل بأنه من الممكن التفاهم مع الأمريكان ومن الممكن الاستناد إليهم؛ وضمناً التخلص من أوهام السعي وراء الاعتراف ووراء رفع العقوبات، لأن هذا الأمر لن يحدث، حتى ولو أراد البعض أن ينبطح انبطاحاً كاملاً للأمريكي، وأن يوافق على كل شروطه... لأن الخيارات التي يضعها الأمريكي أمام السوريين وأمام الإدارة الجديدة، تؤدي جميعها إلى النتيجة نفسها؛ فإذا تم رفض التعاون دون تأمين بدائل، فهذا سيقود نحو اشتعال الاقتتال الداخلي مجدداً، ونحو تعميق الأزمات الداخلية في سورية وصولاً إلى التفتيت. وإذا تم قبول الشروط والخضوع لها، فتطبيقها سيؤدي إلى تسريع الفرز مع غياب الاحتضان من الشعب السوري، ما يعني أيضاً عزل من يخضعون وإضعافهم، وبالنتيجة إشعال الفوضى عبر تقسيم أمر واقع جديد.
ثانياً: ينبغي البحث عن بدائل ونقاط استناد داخلياً أولاً، وذلك عبر الاستناد إلى الشعب السوري، والبحث عن الشرعية والاعتراف في الداخل، عبر الاستقواء بالسوريين، كل السوريين، بكل قومياتهم وطوائفهم وأديانهم، والطريق هو مؤتمر وطني عام يتحقق عبره التوافق بين السوريين وتوحيدهم حول حلم مشترك، وينتج حكومة وحدة وطنية وازنة وشاملة، يرى السوريون أنفسهم ممثلين فيها حقاً وفعلاً.
ثالثاً: كذلك ينبغي البحث عن بدائل ونقاط استناد في الخارج، وعلى رأسها الدول ذات المصلحة في استقرار سورية ووحدتها، وعلى رأسها الصين وروسيا وتركيا ودول الخليج العربي ومصر، وهذا يتطلب إرادة وجرأة سياسية ووطنية؛ لأن هذه الدول مستعدة للتعاون دفاعاً عن مصالحها ضد مشروع «الشرق الأوسط الأمريكي/ الإسرائيلي» الذي يهدد ليس سورية فقط، بل وكل دول المنطقة بالتفتيت والتقسيم...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1224