بين «قوس التوتر» و«الشرق العظيم» ...

بين «قوس التوتر» و«الشرق العظيم» ...

توالت على منطقتنا، منطقة غرب آسيا المسماة «شرقاً أوسطاً» في الأدبيات الاستعمارية، ومنذ نهاية المرحلة العثمانية ودخول الاستعمار الأوروبي، مجموعة من المشاريع الغربية المتعاقبة الشهيرة؛ من «سايكس-بيكو» و«وعد بلفور» إلى «حلف بغداد» إلى «قوس التوتر»، ووصولاً إلى «الشرق الأوسط الكبير» و«الشرق الأوسط الجديد» و«الناتو العربي» و«الاتفاقات الأبراهيمية/صفقة القرن»، والآن يعود نتنياهو ليعلن مجدداً عن البدء بتنفيذ خريطة جديدة، لشرقٍ أوسط جديد.

وباستخدام «الحكمة بأثرٍ رجعي»، أي عبر النظر في التاريخ المتحقق للقرن العشرين وعقدين ونصف من القرن الواحد والعشرين، يمكننا القول: إن هذه المشاريع كلها، كانت خطوات متعاقبة ضمن اتجاهٍ ثابت، معالمه الأساسية هي التالية:

أولاً: التفتيت المتسلسل للمنطقة؛ أي التفتيت ثم تفتيت المفتت.

ثانياً: «الدول الوطنية» نفسها، ولأنها كانت منقوصة الاستقلال اقتصادياً، وسياسياً في كثير من الأحيان، تحولت إلى مرحلة من مراحل التفتيت.

ثالثاً: الفوالق الدينية والطائفية والقومية، جرى ويجري استخدامها إلى الحد الأقصى كأدوات في تفتيت المفتت.

رابعاً: «التنمية» المتفاوتة المناسبة للهيمنة الاستعمارية، والتي ارتكزت إلى معادلة تنمية السواحل (بوصفها نقاط الاتصال مع ممالك أعالي البحار الغربية) وإهمال الداخل، تحولت إلى عامل تفتيت إضافي في قلب كل بلد من البلدان.

خامساً: التبعية التكنولوجية والديون ومقص الأسعار وهجرة العقول، وبكلمة التبادل اللامتكافئ، كان جزءاً عضوياً من عمليات ضرب أي استقلال اقتصادي، وتالياً أي تنمية حقيقية... وهذا بدوره كرس بنى هشة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً في كل دول المنطقة، وكرس معها أنظمة تستند إلى «السيطرة» بشكلٍ أساسي، لا إلى «الهيمنة»؛ فقوة «الاستدامة» ها هنا، هي بالدرجة الأولى قوة القسر والبطش، وليست قوة التراضي والإقناع...

سادساً: «إسرائيل» مسلحة حتى أسنانها، ومتقدمة تكنولوجياً، كانت العنصر الأكثر ثباتاً ضمن الرسمة الاستعمارية، بوصفها بلطجي «الشرق الأوسط» الذي تطال يده أي محاولة لكسر طوق التبعية.

سابعاً: القواعد العسكرية الأمريكية، هي الأخرى عنصر ثابت في المعادلة، وخاصة في الدول الخليجية، للتحكم بمعادلات الطاقة من جهة، وبخطوط التجارة من جهة ثانية.

ما الجديد؟

حين يقول نتنياهو: إنه هو، وكيانه، قد بدأا بـ«تنفيذ شرق أوسط جديد»، فهو محق في شيء واحد، هو أن حالة السكون النسبي لخرائط هذه المنطقة منذ سايكس بيكو، ومنذ قيام كيانه بعد ذلك، قد انتهت صلاحيتها، ولم يعد ممكناً استمرارها بأي حالٍ من الأحوال؛ فهي لم تعد مناسبةً لا لشعوب هذه المنطقة، ولا للاستعمار الغربي في مرحلة تراجعه وأزمته، ولا للقوى الصاعدة في مرحلة تقدمها... وبكلمة، باتت الخريطة الجغرافية السياسية لمنطقة غرب آسيا متخلفة عن مجرى التطور التاريخي، وهي متجهة نحو تغيير لا مفر منه... والمقصود هنا، ليس حدود الدول، ووجود الدول، بالمعنى القانوني الرسمي؛ فالتغيير ممكن مع بقائها على حالها، على الأقل ضمن الأفق التاريخي المنظور... والتغيير ممكن سلباً وإيجاباً مع بقاء هذه الحدود على حالها؛ أي أن حالة التجميع وحالة التفتيت، كلتاهما يمكن أن تحافظا على «الحدود الرسمية»؛ حالة التجميع عبر اتحادات واسعة بين شعوب ودول المنطقة وتخدم مصالح شعوب ودول المنطقة، وحالة التفتيت التي تُدخل دولاً من المنطقة في «أحلافٍ» مع الغرب، هي في جوهرها عمليات انتدابٍ معاصرة، تتضمن بالضرورة تقسيمات داخلية إضافية، وتسييداً لأمراء العشائر والقبائل والطوائف والقوميات، ضمن منطق سيادة تجار الحروب وملوك الطوائف...

«قوس التوتر» و«الشرق العظيم»

يُنسب مصطلح قوس التوتر إلى بريجنسكي، ويُقال: إنه ورد للمرة الأولى في مذكرة أرسلها للرئيس الأمريكي كارتر نهاية عام 1979 بخصوص حدثين كبيرين في حينه هما: الثورة الإيرانية، ودخول السوفييت إلى أفغانستان.
يحدد بريجنسكي منطقة «قوس التوتر» جغرافياً، بالطريقة نفسها التي يتم تحديد «الشرق الأوسط» بها، لتمتد من أفغانستان وباكستان وإيران وتركيا، مروراً بالقسم الآسيوي من المنطقة العربية، ووصولاً إلى القرن الأفريقي ضمناً.
وأما السياسة التي ينصح بها بريجنسكي في التعامل مع هذه المنطقة، فكانت في حينه مرتكزة إلى معاداة السوفييت، والعمل على تقويض نفوذهم، ولكنها في الجوهر هي ذاتها المتبعة حتى اللحظة، والقائمة على العناصر السبعة التي ذكرناها أعلاه، وجوهرها بلطجة عسكرية «إسرائيلية»-أمريكية، وتفتيت للدول والشعوب باستخدام مختلف أنواع الفوالق، وتكريس للتبعية والتخلف والنهب ومعها القمع والتسلط الداخلي.
تعامل بريجنسكي وغيره من منظري الجغرافية السياسية مع هذه المنطقة كلها، كمنطقة عمليات واحدة مترابطة، ليس أمراً رغبوياً أو انتقائياً، بل هو انعكاس لحقيقة موضوعية هي: أن هذه المنطقة تكون إقليماً جغرافياً اقتصادياً ثقافياً وروحياً واحداً، وتالياً: سياسياً واحداً... كذلك كان الأمر عبر التاريخ، وكذلك هو الآن.
مقابل «قوس التوتر»، يمكن للمراقب أن يرى الملامح الأولى لمخطط معاكس تماماً، يشمل المنطقة نفسها أيضاً، وهو مخطط تجميعي تنموي... يمكن أن نسميه اصطلاحاً بـ «الشرق العظيم».
يستند هذا المخطط إلى وحدة هذا الإقليم بأبعادها المختلفة، وإلى تحويل هذه الوحدة إلى واحة للتنمية، ليس من باب حسن الأخلاق أو سوئها، ولكن من باب الضرورات الموضوعية للتطور ضمن المنظومة الرأسمالية نفسها (مؤقتاً على الأقل)، والتي وصلت إلى انسداد أفق ملموس، وتعطل لعمليات إعادة الإنتاج بأشكالها البسيطة والموسعة... وضمن الضرورات الموضوعية لهذا الانسداد نفسه، الذي يفتح الباب نحو خلق الجديد على المستوى العالمي والإقليمي...
بهذا المعنى، فإن ما نراه في بريكس وشنغهاي على المستوى الدولي، وفي أستانا والتسوية السعودية-الإيرانية، وجملة التسويات بين تركيا ودول عربية عدة، هو بداءات المشروع المضاد لـ«قوس التوتر» / «الشرق الأوسط الجديد».
وبعيداً عن التحزبات الآنية بالمعنى السياسي، فإن الترابط الذي نراه في عمليات الهجوم على الكيان ومناهضته، والعابرة من فلسطين إلى لبنان والعراق واليمن وإيران، حتى وإنْ جرت تسميتها من البعض «مشروعاً إيرانياً»، بل وحتى إنْ وجدت طموحات فعلية من هذا النوع عند إيران أو غيرها، إلا أن هذا الترابط في إطار التطور الموضوعي والتوازن الموضوعي للقوى في المنطقة والعالم، هو ترابط يشكل أحد بذور وملامح الشرق العظيم الذي ستنظمه ثقافياً، جملة من القيم الأخلاقية والحضارية التي سيكون الإسلام بالضرورة أحد مكوناتها، وستنظمه مصلحة اقتصادية تنموية جامعة، مركزها هو إنهاء الاستعمار بشكليه القديم والحديث، العسكري والاقتصادي... وهذه الرسمة العامة تتطلب بالضرورة ليس فقط قيام الدولة الفلسطينية، بل وإنهاء الدور الوظيفي للكيان الصهيوني، بوصفه مستعمرة استيطانية فاشية وبلطجياً غربياً في منطقتنا...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1195