حول «الحوار الوطني» و«المؤتمر الوطني»!
كثرت في الآونة الأخيرة الدعوات التي تطلقها جهات محسوبة على النظام تارة، وعلى المعارضة تارة أخرى، إلى «حوارٍ وطني»، وإلى عقد «مؤتمر وطني». ورغم المضمون الإيجابي الذي يمكن أن توحي به هذه العناوين العامة، إلا أن التدقيق في التفاصيل والرسائل المصاحبة، يسمح بفتح الباب على التفكير بأهداف أخرى مخالفة لذلك المضمون...
أول المشكلات في طروحات عديدة من هذا الطراز، هي تعريفها لـ«الوطني»؛ ففي صفوف متشددي النظام والمحسوبين عليهم، فالوطني هو ما يعتبرونه هم وطنياً، وهو محصور ضمن حدود فكرة «المجتمع المتجانس» التي تشمل قسماً من السوريين فحسب وتستثني من تبقى، ليس على مستوى القوى السياسية فحسب، بل وحتى على مستوى المجتمع نفسه.
وعلى الضفة المقابلة، أي على ضفة متشددي المعارضة، فالأمر هو نفسه من حيث الجوهر؛ حيث تتحدد الوطنية بموقف سياسي محدد هو في جوهره موقف رافض للحل السياسي، ورافض للحوار مع «الآخر»، أي النظام.
بكلام آخر، فإن الفهم الذي يجري تقديمه لفكرة «الحوار الوطني»، هو فهم تقسيمي يستند إلى الانقسام الحاصل ليس فقط على المستوى السياسي، ولكن أيضاً على مستوى تقسيمات الأمر الواقع، بما يفضي إلى أن تفعيل هذه الفكرة بالشكل الذي تطرح فيه، لن يتحول إلى «حوار وطني»، بل سيتحول في الحقيقة إلى «حوار» غرضه تكريس تقسيم الأمر الواقع، وبما يؤدي بالمحصلة العملية، إلى الانتقال من النقيض إلى النقيض، أي من الحوار الوطني إلى الحوار اللاوطني!
المشكلة الثانية ضمن جملة الطروحات التي يجري تقديمها، أن الداعين إليها رغم اصطفافهم في خندقين متعارضين شكلياً، تشترك، (وللمفارقة)، في استبعادها للقرار 2254 بشكلٍ كاملٍ، أو استبعاده عبر تحويله إلى كليشة كلامية مفرغة من المضمون.
بما يعني أن المتشددين من كلا الطرفين، ما يزالون عند أوهامهم القديمة نفسها، في «الحسم» و«الإسقاط»، بل وربما باتت لديهم أوهام أكثر خطورة وسوءاً بالمعنى الوطني؛ فالحديث عن الحسم والإسقاط، كان يفترض ضمناً غلبة أحد الطرفين بشكلٍ ساحق ماحق على الطرف الآخر، ومن ثم السيطرة على البلد بأكملها واحدة موحدة. اليوم نرى ونسمع ونشاهد نمطاً مختلفاً من السلوك، تنحو به قوى سيطرة الأمر الواقع إلى إعادة تعريف الوطن نفسه، وإعادة تعريف حدوده؛ بحيث يصبح الوطن هو «ما نسيطر عليه»، ويصبح الشعب هو «من يؤيدنا ويقع ضمن سيطرتنا»، ويصبح الحوار، حواراً مع الذات، يفضي إلى النتائج المعروفة مسبقاً، لتأكيد سيطرة تلك القوى نفسها، ودون أي تغيير حقيقي على أرض الواقع، اللهم إلا تكريس تقسيم الأمر الواقع...
المشكلة الثالثة التي تبرز ضمن بعض طروحات ودعوات «الحوار الوطني» و«المؤتمر الوطني»، أنها دعوات غير مصحوبة لا بالهدف المرجو منها، ولا بالآليات المطلوبة للوصول إلى ذلك الهدف.
هنالك بطبيعة الحال كلام عام عن الانتقال نحو الديمقراطية من جانب، وعن حل وتجاوز الأزمة من جانب آخر؛ أي أن الكلام عن الأهداف على الضفتين أشبه ما يكون بالشعارات الرنانة، التي يجري تدبيجها على عجل تحت صور المرشحين وابتساماتهم في انتخابات مجلس الشعب، ومع غياب برنامج عملي وحقيقي على المستويات الاقتصادية-الاجتماعية والسياسية والوطنية.
وإذا كان الحديث عن الأهداف يحتمل النقاش، وربما هنالك من يصيغ أهدافاً معقولة مصاحبة لدعوات الحوار، فإن الأمر الغائب تماماً هو آلية الوصول إلى تلك الأهداف، بما يوحي بأن الحوار نفسه هو المبتدى وهو النهاية، هو الطريق وهو الطريقة؛ الأمر الذي سيقود أي حوارٍ من هذا النوع إلى النتائج السابقة نفسها، أي إلى لا شيء سوى محاولات الإيحاء بالحركة، والإيحاء بوجود رغبة في الحل، مع غيابها في حقيقة الأمر.
ما يمكن إضافته في هذا الإطار، هو أن دعوات الحوار العامة التي تقفز فوق فكرة الانتقال السياسي القائم على التوافق والتفاوض واشتراك كل الأطراف على أساس 2254، إذا كانت قد استُخدمت سابقاً للإيحاء بشكلٍ غير صادق بالرغبة في الحل، فإنها تستخدم اليوم بشكلٍ مباشر للعمل ضد الحل، وضد احتمالاته، وضد الجهود التي يجري بذلها للوصول إليه...
على سبيل المثال لا الحصر، يتفق اليوم متشددون في المعارضة وفي النظام، على أنه يجب القيام بحوار وطني، بهدف العمل ضد التسوية بين سورية وتركيا! متشددون في المعارضة يدفعون بهذا الاتجاه صراحة، ومتشددون في النظام ومقربون إليه يدفعون أيضاً بالاتجاه نفسه، وإنْ بتعبيرات أقل صراحة.
يحدث ذلك تماماً في الوقت نفسه الذي تعمل فيه واشنطن، ومعها لندن وبعض العواصم الغربية، وكذلك الكيان والمطبعون معه من العرب وعلى رأسهم الإمارات، على إعاقة عمل أستانا باتجاه التسوية السورية التركية، التي باتت مفتاحاً أساسياً من مفاتيح كسر العقوبات الغربية والحصار الغربي من جهة، وكذلك باباً أساسياً من أبواب شل قدرة واشنطن على مواصلة منع تطبيق 2254، وهو الهدف الذي بات معلناً بشكلٍ صريح من جانب 8 دول أوروبية تعمل بإدارة واشنطن اتجاه الملف السوري، عبر اللاورقة التي قدمتها مؤخراً، والتي تنطلق من فكرة أن «الحل السياسي وفق 2254 بعيد المنال»، بما يعني ضرورة البحث عن سُبل أخرى غير هذا القرار، وبالتحديد مشروع «خطوة مقابل خطوة» الذي يصب- كما بينت قاسيون مراراً- في تكريس تقسيم الأمر الواقع، وفي إطالة حالة «المستنقع» في سورية إلى أجل غير مسمى...
إن المدخل الفعلي والوحيد باتجاه الخروج من الكارثة، وباتجاه استعادة وحدة سورية والشعب السوري وإخراج كل القوات الأجنبية، هو التطبيق الكامل للقرار 2254، ابتداءً من التفاوض المباشر الجاد بين معارضة مؤهلة وبين النظام، ومروراً بتشكيل جسم الحكم الانتقالي والدستور والانتخابات، وبما يضمن انتقالاً حقيقياً يتيح للشعب السوري تقرير مصيره بنفسه.
وهذا المدخل، وكما تثبت الوقائع طوال السنوات الماضية، لن يتوفر إلا بالاستناد إلى الدول والقوى صاحبة المصلحة الفعلية في الحل وفي الاستقرار في سورية، وبالضد من مصالح واشنطن بالذات، ومعها «إسرائيل» بطبيعة الحال... والقوى ذات المصلحة الفعلية في الحل والاستقرار، هي ثلاثي أستانا، والصين، ودول عربية أساسية مستهدفة هي الأخرى بالفوضى الشاملة الهجينة...
يمكن القول: إن درجة التوافق والتعاون بين هذه الدول صاحبة المصلحة في الحل، قد وصلت إلى العتبة المطلوبة للبدء بالتنفيذ... بقي أن يتم إنضاج العامل الذاتي الداخلي لملاقاة الفرصة التاريخية لولادة جديدة لسورية... وهذا لن يكون بـ «حوارٍ وطني» أو «مؤتمر وطني» من الطراز العائم والتقسيمي الذي تتم الدعوة إليه، بل عبر رصّ صفوف الوطنيين الديمقراطيين من كل الأطراف، وتجميع جهودهم باتجاه الضغط لتحقيق الحل السياسي وفق 2254، وعبر الاستناد أيضاً إلى الحركة الشعبية الكامنة، والتي يمكن أن تعود للعمل النشط في كل البلاد، في أي لحظة...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1189