انقسام النصرة بين الولاءات، والشارع نحو تَوحُّدٍ ضد كل أطراف الانقسام!
سجّلت المظاهرات والاحتجاجات الشعبية ضد جبهة النصرة وزعيمها الجولاني في مناطق سيطرة هذا الأخير، منعطفاً جديداً خلال الأيام القليلة الماضية، وخاصة مع الإعلان الصريح الذي أطلقه الجولاني الثلاثاء الماضي 21/5 بأنّ «صبره قد نفد»، وبأنه «سيواجه كل من يعبث بأمن المنطقة».
رغم أنّ السنوات الماضية التي سيطرت فيها جبهة النصرة/هيئة تحرير الشام على إدلب والقسم الأكبر من أريافها، وجزء من أرياف حلب، لم تخلُ من تحركات شعبية مناهضة للنصرة وسيطرتها، إلّا أنّ يومَ الأحد 25 شباط الفائت، كان نقطةَ انعطافٍ تحوّلت فيها التحرُّكات الفردية والضيّقة الحدود ضد الجولاني إلى عملٍ واسع على نطاقٍ شعبي، عبر خروج تظاهرات بدأت بالعشٍّرات ووصلت إلى المئات مؤخراً، والبعض يقدرها بالآلاف، في كل من إدلب وبنش وجسر الشغور، وهي المراكز الأساسية الثلاثة، بالإضافة إلى عدة تظاهرات في الأرياف.
أطلق المتظاهرون أربع مطالبات أساسية هي: إسقاط الجولاني، حل جهاز الأمن العام (وهو الجهاز الأمني الأساسي لدى النصرة)، تشكيل مجلس شورى منتخب، تبييض السجون من معتقلي الرأي.
يوم الجمعة الماضي، 24/5، تجددت المظاهرات على نطاق واسع مكرِّرةً المطالب نفسها، ولكن هذه المرة، وبعد إعلان الجولاني عن «نفاد صبره»، تحوّلت سياسة قمع المظاهرات وتنفيذ الاعتقالات إلى «سياسة رسمية» للنصرة، تضمنت وضع حواجز على مداخل المراكز الثلاثة الأساسية في المحافظة (مدينة إدلب، وبنش، وجسر الشغور)، لمنع المتظاهرين من القدوم من الأرياف للتظاهر فيها. وتم اعتقال عدد من المتظاهرين واستخدام أشكال مختلفة من أدوات القمع بما فيها الرصاص الحي.
اللافت خلال الأسبوع الماضي، هو انتقال الجولاني نحو الهجوم الشامل على المتظاهرين، ليس ضمن حدود الاعتقالات والقمع فقط، بل وأيضاً على مستوى «الخطاب السياسي والديني» الذي يبرِّر عمليات القمع؛ حيث مارست النصرة رقابة عالية على مضمون خطب الجمعة في المساجد، ومنعت الخطباء المعارضين للنصرة من اعتلاء المنابر وأبدلتْ بهم خطباءَ مؤيدين لها... بين هؤلاء خطيبٌ في أحد مساجد منطقة حارم دعا المصلّين إلى «اتقاء غضب الحاكم لأنّه إذا غضبَ فلن يوفِّرَ أحداً مِن الذين يعترضون عليه».
قبل انتقال الجولاني إلى المواجهة العلنية الصريحة مع المتظاهرين، كان قد جرَّب خلال الأشهر الماضية أن يقوم ببعض الإجراءات الشكلية لاستيعاب المظاهرات ووقف تطوّرها. من ذلك أنّه أصدرَ «مرسوم عفو» أخرجَ بموجبه مجموعةً من السجناء، تبيَّن أنّهم بمعظمهم سجناء جنائيّون، في حين أبقى على السجناء السياسيين على خلفية التظاهر ضده، كما حاول تأريض التظاهر من خلال اجتماعات ولقاءات متتالية مع وجهاء محليين وعشائريين من مختلف المناطق في إدلب، ولكن النتيجة تقول إنّ هذه الإجراءات كلّها لم تتمكن من تطويق الغضب المتصاعد ضده وضد تنظيمه.
ضمن خلفيات حالة الغضب الواسع ضد الجولاني جملة من الأمور والممارسات، ربما أقلّها تأثيراً هو الجانب القمعي الأمني الذي وإنْ كان موجوداً بشكل مستمر طوال فترة سيطرة الجولاني، إلا أنّه بقي مضبوطاً إلى هذا الحد أو ذاك بحكم طبيعة المنطقة وطبيعة السكان التي تجعل للعائلات الكبيرة والعشائر قوة مفاوضة بوجه الجولاني وتنظيمه لا يمكنه تجاوزها ببساطة.
بين التطوّرات التي دفعت الأمور نحو الانفجار، تبرزُ عوامل أخرى لا يجري إيلاؤها الاهتمام الكافي في الكثير من وسائل الإعلام التي تغطّي المسألة. وبين هذه العوامل ما يلي:
أولاً: الوضع الاقتصادي الاجتماعي
السنة الماضية شهدت تردياً هائلاً في أوضاع الأهالي الاقتصادية في مناطق سيطرة النصرة؛ فإضافة إلى الفساد على المعابر والتحكم بالمساعدات وحركتها، برز أمران مهمّان؛ الأوّل هو الانخفاض الكبير للمساعدات القادمة من خارج إدلب، سواء المساعدات الدولية المباشرة أو عبر المنظَّمات وعبر برنامج الغذاء العالمي، والتي تقول التقديرات إنّها انخفضت إلى ثلث ما كانت عليه قبل عامين.
بالتوازي، ومع تراجع مصدرٍ أساسي من مصادر التمويل للنصرة، عبر نهب أجزاء من المساعدات، بأشكالٍ مباشرة وغير مباشرة، قامت النصرة بتعزيز عملياتها «الجمركية» على الحواجز داخل مناطق سيطرتها وعلى حدودها، ما انعكس في ارتفاعات إضافية في الأسعار وخاصة أسعار المواد الأكثر أساسية.
وأيضاً، ابتداءً من شهر أيلول الماضي، وفي تعبيرٍ عن حالة التردي الاقتصادي العام، سمحت النصرة للمَتاجر داخل مناطق سيطرتها، بتسعير وبيع بضائعها بالدولار الأمريكي، بدلاً من الليرة السورية والليرة التركية اللتين كانتا العملتين المستخدمتين في التبادلات الداخلية في تلك المنطقة.
ضمن الوضع الاقتصادي الاجتماعي أيضاً، وبين الأمور التي استفزّت عموم الناس بشكلٍ أكبر، أنّ حالات الثراء الفاحش لدى المتنفّذين ضمن الهيئة وبعض المتعاونين معهم من التجّار، قد باتت نافرةً ومؤذية للوجدان الجَمعي بشكلٍ كبير؛ ففي الوقت الذي تعيش فيه الغالبية الساحقة من السكان تحت خط الفقر، بدأت تظهر علامات الغنى الفاحش بما فيها أسواق الذهب والسيارات الفارهة وأشكال الترف المختلفة، على بعد أمتارٍ قليلة من الجوع والفقر والمخيَّمات الكثيرة داخل إدلب التي يقترب عددها من 2000 مخيم تكاد تنعدم فيها أدنى شروط الحياة.
ثانياً: التناقضات الداخلية ضمن النصرة وحولها
بين العوامل المؤثرة فيما يجري، والذي يمكن أن توضحه الشعارات المرفوعة في المظاهرات، التناقضُ الداخلي والصراع الداخلي ضمن أجنحة النصرة؛ هنالك مثلاً بين الشعارات المرفوعة المتكررة ضمن المظاهرات، شعارٌ يطالب بإسقاط الجولاني وفي الوقت نفسه يحيّي «الجهاز العسكري للنصرة».
يضاف إلى ذلك ما تسرّب منذ أشهر عن خلافات واعتقالات على مستوى القيادات الأولى ضمن النصرة، والتي شكّلت زناداً قادحاً عزَّز عواملَ الغضب الشعبي المتراكم، وأمّن لها «سنداً» داخل النصرة نفسها.
الانقسام الداخلي ضمن النصرة، ليس مجرَّد انقسامٍ على «توزيع الغنائم»، بل يعبِّرُ في جانبٍ عميقٍ منه عن انقسام الولاءات الدولية والإقليمية ضمن النصرة؛ ففي الوقت الذي يبدو فيه نفوذُ الأمريكيّ هو الأعلى ضمن النصرة، فإنّ هنالك أيضاً نفوذاً تركياً لا يُستهان به ضمنها.
والحراك المناهض للجولاني، يمثل في أحد جوانبه هذا الانقسام. والجولاني يحاول تقديمَ نفسه ضمن هذا الصراع بوصفه نقطة التوازن بين التيارين الموالي للأمريكان من جهة والموالي للأتراك من جهة أخرى، في حين يبدو السلوك الإجمالي للنصرة أقرب للأمريكان، خاصة بما يتعلق بمُخرَجات أستانا وضروراتها التنفيذية.
من الصعب التكهّن منذ الآن بالنتيجة النهائية لحالة الاستقطاب الجارية على مستوى الشارع في إدلب ومحيطها، ورغم أنّ التيارين الأساسيين يحاولان استخدام الشارع وتوظيفَه في البازار السياسي، إلا أنّ إرادةً شعبية مضادّة للتيارَين، ومطالبة بتغيير عامٍ في البلاد بأسرها، تتبلور يوماً وراء يوم بشكل أكثر وضوحاً، خاصةً مع الاختبار الملموس لقوى الأمر الواقع ولوعودها الكلامية وتصرفاتها العملية المُناقِضة...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1176