خطوات المحكمة الجنائية الدولية الأخيرة وما الذي سيترتب عليها؟

خطوات المحكمة الجنائية الدولية الأخيرة وما الذي سيترتب عليها؟

قدم كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، يوم 20 أيار طلباً لإصدار أوامر قبض فيما يتعلق بالوضع في دولة فلسطين، وأصدر مكتب المدعي العام بياناً حول الموضوع عرض فيه الأفراد الذين تمت تسميتهم في الطلب والأسس القانونية، أو الجرائم وفق نظام روما الأساسي، التي على أساسها تم تقديم الطلب. وتضمَّن الطلب أسماء ثلاثة من قيادات حماس، وكذلك مسؤولَين «إسرائيليَّين» وهما رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت. وفي الخطوة التالية، وفق إجراءات المحكمة، ستقوم الدائرة التمهيدية في المحكمة بمراجعة الوثائق كافةً الداعمة للطلب الذي قدّمه مكتب المدعي العام، لاتخاذ قرار حول إصدار أوامر قبض أو مذكرات توقيف بحق المدَّعَى عليهم.

وقال المدَّعِي العام في بيانه المشار إليه أعلاه: «إن الذين لا ينصاعون للقانون ينبغي ألّا يضجّوا... عندما يتخذ مكتبي إجراءات. وقد آن الأوان لذلك... ولقضاة المحكمة الجنائية الدولية المستقلين وحدهم الحكمُ فيما إذا كان المعيار اللازم لإصدار أوامر قبضٍ قد استُوفِي. فإنْ وافقوا على طلباتي وأصدروا الأوامر المطلوبة، سأعمل حينئذٍ عن كثب مع مسجِّل المحكمة باذلاً كلَّ جهدي للقبض على الأفراد المذكورة أسماؤهم... ومن الحاسم الآن أن يُسمح لمكتبي ولكل أجزاء المحكمة، بمن فيهم قضاتها المستقلون، بالاضطلاع بعملهم باستقلال تامّ وحيادية تامة. وأُصِرُّ على الإيقاف الفوري لكل محاولات عرقلة مسؤولي هذه المحكمة أو إرهابهم أو التأثير عليهم بشكل غير لائق. ولن يتردَّد مكتبي في التصرف عملاً بالمادة 70 من نظام روما الأساسي إذا استمر هذا السلوك... ولن يتردّد مكتبي في تقديم المزيد من طلبات إصدار أوامر القبض إذا ارتأينا استيفاء الحد الأدنى لإمكانية الإدانة استيفاءً واقعياً... ولنكنْ واضحين اليوم بشأن مسألة جوهرية: لو لم نُظهِر استعدادنا لتطبيق القانون على قدم المساواة، ولو بدا أنه يُطبَّق تطبيقاً انتقائياً، فإننا سنتيح الظروف المواتية لانهياره».
قانونياً، في حال صدرت أوامر القبض بحق شخص ما من قبل المحكمة، يتم إرسال مذكرات الاعتقال إلى الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، وهذه الدول ملزمة بالتعاون مع المحكمة في تنفيذ مذكرات الاعتقال. كما يمكن للمحكمة أن تطلب من الدول غير الأطراف تنفيذ أوامر الاعتقال، لكن الامتثال لها يخضع لتقدير الدول. كما أنه في حال وجود اتفاقيات ثنائية بين الدول بعدم تسليم المطلوبين لطرف ثالث، فإنّ هذه الاتفاقيات تكون مقدَّمةً بالمعنى القانوني على الاتفاقيّات التي تشكَّلتْ بموجبها محكمةُ الجنايات الدولية.
فعلياً تنفيذُ هذه الأوامر من قبل الدول سواء كانت عضواً في المحكمة أو لم تكن، يعود لها في نهاية المطاف لأن المحكمة الجنائية الدولية ليست لديها سلطة أو قوة تنفيذية، أو بكلام آخر جهاز شرطة يلقي القبض على الأشخاص المدانين، وتعتمد على تعاون الدول، الأمر الذي خضع تاريخياً لبازارات وحسابات سياسية معقدة، صبّت بشكلٍ كاملٍ تقريباً في المصلحة الغربية. ومع ذلك، فإنّ مجرَّد إصدار الأوامر يشكّل ضغطاً سياسياً على الأفراد الصادرة بحقّهم وهناك دائماً احتمال تنفيذها من قبل دولة ما، وستكون لديهم اعتبارات مختلفة عند التحرك دولياً.
الأهم من الجانب القانوني وتداعياته وإمكانية تطبيقه، هو الجانب السياسي، والذي بدأ بالظهور فعلياً حتى قبل إرسال الطلب لإصدار هذه الأوامر؛ ومن أهم المؤشرات على هذا الجانب كانت ردود أفعال الكيان عندما بدأ الكلام حول احتمال أن يقوم المدعي العام للمحكمة بإرسال الطلب، الأمر الذي عالجناه في مادة سابقة نشرتها قاسيون قبل ثلاثة أسابيع، أي قبل ما يقارب الأسبوعين من إعلان مكتب المدعي العام إرساله الطلب المذكور هنا.
عودةً إلى الجانب القانوني وبالتحديد حول اختصاصات المحكمة؛ فهو محدَّد بالجرائم المنصوص عليها في نظام روما الأساسي، وجغرافياً بالدول الأعضاء، وبما أن المحكمة تنظر في المسؤولية الفردية في الجرائم ضمن اختصاصها، لديها القدرة على النظر في الجرائم المرتكبة في أراضي الدول الأعضاء في المحكمة، أيْ الموقِّعة على نظام روما الأساسي، أو الجرائم المرتكبة من قبل مواطني الدول الأعضاء. وهنا يمكن التطرق إلى ما يتم تداوله حول أنّ «إسرائيل» ليست موقّعة على نظام روما الأساسي، إلّا أنّ طلب فلسطين للانضمام إلى المحكمة تم قبوله في عام 2015، وما جعلها قادرة على الانضمام كان قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2012، والذي بموجبه تم تغيير وضع فلسطين من مراقب في الأمم المتحدة إلى دولة مراقبة غير عضو، الأمر الذي فتح الباب أمامها للانضمام إلى منظمات ومؤسسات دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية، ما يعني أنه بات يمكن النظر في الجرائم المنصوص عليها في نظام روما الأساسي والتي يتم ارتكابها في الأراضي الفلسطينية بدءاً من تاريخ الانضمام، وتعريف الأراضي الفلسطينية خاضع للقرارات الدولية ذات الصلة، ما يعني أن كل ما يتم اعتباره أراضٍ محتلة يقع ضمن اختصاص المحكمة، إضافة إلى قطاع غزة والضفة الغربية. وبمجرّد انضمام دولة إلى المحكمة، يُمكِن للمدَّعي العام فتحُ تحقيقات للنظر في ممارساتٍ يمكن أنْ ترقى لمستوى الجرائم ضمن اختصاص المحكمة. وفعلاً، أعلنت المدعية العامة للمحكمة آنذاك في عام 2021 أنها ستفتح تحقيقاً في جرائم محتملة على الأراضي الفلسطينية.
كل هذه التطورات في الإجراءات والخطوات التي اتخذتها المحكمة دفعت مسؤولين من الكيان وبعضَ داعميه، وبالأخصّ الأمريكان، إلى الإدلاء بتصريحاتٍ ذات طابع تهديديّ تجاه المحكمة والمدَّعي العام، ومحاولة الضغط عليهم لعدم اتخاذ خطوات إضافية قانونية تجاه الكيان ومسؤوليه. وما يجعل درجة العدائية أعلى مرتبطٌ باستمرار تصاعد الرأي العام المناهض للكيان وممارساته والمتعاطفِ مع الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، إضافة إلى الإجراءات الجارية في محكمة العدل الدولية ضمن القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد الكيان، والتي التحقت بها وأيّدتها عدّة دول، وكذلك اعتراف بعض الدول الغربية مؤخَّراً بالدولة الفلسطينية، بينها النرويج وإسبانيا وإيرلندا.
وكان المدَّعي العام قد تطرق إلى بعض هذه التهديدات التي تم توجيهها إليه ولقضاة المحكمة ومحاولات الترهيب والتخويف المباشرة وغير المباشرة، وقال سابقاً وكذلك في البيان الذي أصدره قبل أيام، إنّ هذه المحاولات لن تثنيه عن المضي قدماً في تطبيق القانون وملاحقة المنتهكين والمتورطين في الجرائم التي تقع ضمن اختصاص المحكمة. وفيما يلي بعض ردود الأفعال من مسؤولين من الكيان ومن الدول الداعمة له:
كالمعتاد، نتنياهو يخرج بتصريح مصوَّر للرد على كل شيء، وفي تغريدة نشر فيها التصريح للردّ على المحكمة والمدعي العام، قال: «إن القرار المشين الذي اتخذه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، بطلب إصدار أوامر اعتقال ضد قادة (إسرائيل) المنتخبين ديمقراطياً، يشكل انتهاكاً أخلاقياً ذا أبعاد تاريخية. وسوف يُلقي ذلك بعلامة عارٍ أبدية على المحكمة الدولية».
يسرائيل كاتس، وزير خارجية الكيان، كتب في تغريدة له: «إن القرار الفاضح الذي اتخذه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي هو اعتداء مباشر غير مقيد على ضحايا يوم 7 تشرين الأول ورهائننا الـ 128 في غزة. وبينما يرتكب القتلة والمغتصبون من حماس جرائمَ ضد الإنسانية ضد إخواننا وأخواتنا، فإن المدعي العام يذكر في الوقت نفسه رئيس الوزراء ووزير الدفاع (الإسرائيلي) إلى جانب وحوش حماس الدنيئة الشبيهة بالنازية – وهو وصمة عار تاريخية ستبقى في الذاكرة إلى الأبد. لقد وجَّهتُ بإنشاء مركزِ قيادةٍ خاصّ على الفور في وزارة الخارجية، يضمّ جميع الكيانات المهنيّة، بهدف مكافحة القرار الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى تكبيل أيدي (إسرائيل) ومنعها من ممارسة حقها في الدفاع عن النفس. أنوي التحدث مع وزراء خارجية الدول الرائدة في جميع أنحاء العالم لحثّهم على معارضة قرار المدعي العام والإعلان أنّه حتى لو صدرت أوامر الاعتقال، فإنهم لا يعتزمون تنفيذها ضد القادة (الإسرائيليين). لن تمنعنا أي قوة في العالم من إعادة جميع رهائننا وإسقاط نظام حماس الإرهابي».
وتطرّق ممثل الكيان في الأمم المتحدة، جلعاد أردان، في تغريدة له عن مداخلته في جلسة لمجلس الأمن، وما قاله فيها حول قرار المحكمة: «لقد انتقدتُ بشدة قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية وقلت إنه «يوم أسود» للمحكمة التي أصبحت سلاحاً في أيدي الإرهابيين. إنها «مطاردة ساحرات» مدفوعة بكراهية اليهود والمصالح السياسية».
رون ديرمر، سفير الكيان في واشنطن، قال في مقابلة له: «إن الاتهامات التي وجهها المدعي العام ليست مشينة فحسب، بل إنها خطيرة. وسوف يقوّضون الديمقراطيات التي تحارب الإرهاب ويؤجّجون نيران معاداة السامية في جميع أنحاء العالم».
في تصريح رسمي للبيت الأبيض، قال الرئيس الأمريكي بايدن: «إنّ طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال ضد القادة (الإسرائيليين) أمرٌ مثير للغضب. واسمحوا لي أن أكون واضحاً: أيّاً كان ما قد يعنيه هذا المدّعي العام، فإنه لا يوجد أي مساواة بين (إسرائيل) وحماس. وسوف نقف دائماً إلى جانب (إسرائيل) ضد التهديدات التي يتعرض لها أمنها».
في تصريح لرئيس الوزراء البريطاني نشرته سفيرة الكيان في بريطانيا، يقول: «ليس هناك مساواة أخلاقية بين دولة ديمقراطية تمارس حقها المشروع في الدفاع عن النفس وجماعة حماس الإرهابية».

أبعاد إضافية

رغم أنّه لا يمكن التعويل فعلياً على نتائج مباشرة تترتب على تحرك المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، أيْ على الوصول الفعلي إلى اعتقال نتنياهو مثلاً، ورغم أنّ كريم خان المعروف بعمله وفقاً للتوجهات الغربية قد ضمّن إشارةً في قراره لميلِه تجاه الكيان (عبر اختيار ثلاثة من قيادات حماس بمقابل قياديين في الكيان)، إلّا أنّ النتائج غير المباشرة لهذا الضغط المتصاعد على الكيان لم تتأخّر في إظهار نفسها، ولن تتأخر في إظهار نفسها بمزيد من الوضوح.
موضوع اعتراف ثلاث دول أوروبية بالدولة الفلسطينية مؤخَّراً، ليس أمراً عابراً، رغم أنه رمزيٌّ بطبيعته، ووضع الكيان في قفص الاتهام في كل من محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية في الوقت نفسه، من شأنه ليس فقط ضرب وتحطيم الدعاية «الإسرائيلية» والدعاية الغربية حول «أخلاقية الجيش [الإسرائيلي]»، والتي باتت محلاًّ لهزء وسخرية الشعوب حول العالم، وخاصة في الغرب مؤخراً. كذلك فإنّ هذه الظروف من شأنها أن تصعّد إمكانيات فرض عقوبات اقتصادية مباشرة على الكيان، كما جرى في تركيا مؤخَّراً، ومن شأنه أن يعزّز من حركة المقاطعة العالمية للكيان وبضائعه والشخصيات المروِّجة له، كما جرى ضمن حملة تكسير وتحطيم الانتشار على وسائل التواصل الاجتماعي لحسابات مشاهير مناصرين للكيان، والتي أثرت بشكلٍ فعليّ على أرباحهم، وحتى على مواقف بعضهم الذين حاولوا تدارك خسائرهم عبر تغيير علنيٍّ لمواقفهم من القضية الفلسطينية.
فوق ذلك كلّه، فإنّ تجمُّع هذه الحركات الضاغطة على الكيان، من شأنه أن يضغط أيضاً، وبالتوازي، على صاحب مشروع الكيان الأساسي، أيْ على واشنطن، التي تعيش عزلة دولية متزايدة بما يخص القضية الفلسطينية، عزلةً ينفض عنها فيها حتى أقرب الدول إليها، بما فيها دول أوروبية عديدة...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1176