لماذا تحوز المعركة في فلسطين كل هذه الأهمية؟
يختلط الأمر أحياناً في أذهاننا حين نخلط بين ما هو «ترند» وبين ما هو أمرٌ مصيري شديد التأثير، وربما يكون هذا أحد نتاجات طريقة إدارة الإعلام على المستوى العالمي.
بكلام أوضح، يمكن أن نتذكر خلال السنة الماضية أنّ زلزال شباط على سبيل المثال، قد احتل كل الشاشات حول العالم بضعة أيام. ويمكن أن نتذكر أنّ تجدد الصراع في السودان مؤخراً، هو الآخر احتل الشاشات بضعة أيام... وإلخ. ونخطئ إذا افترضنا أنّ احتلال المشهد الفلسطيني للشاشات هذه الأيام، هو مجرد «ترند» لحظي سيمضي بعد أيامٍ أو أسابيع، كما مضى غيره؛ فما يجري في الإعلام حالياً بخصوص فلسطين، ليس سوى أحد التعبيرات... هنالك ما يجري في شوارع العالم بأسره، في الدول العربية والإسلامية، وفي الشرق والغرب، في أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا، وفي في كل مكان حرفياً.
هنالك أيضاً المواقف السياسية التي شملت كل قادة العالم وأحزابه وحركاته وتجمعاته؛ ليس هنالك من ليس له موقف مما جرى ويجري. بين مواقف معتادة من قادة العالم الغربي الراعي الأساسي للصهيونية، وبين مواقف واضحة وبعضها نوعي ومستجد من قادة أساسيين في القطب الصاعد، هي أقرب إلى نصرة الفلسطينيين علناً ودون مواربة.
دون أيّ مبالغة، فإنّه ليس هنالك صراعٌ في العالم بأسره، يحوز درجة إجماعٍ شعبي عالمي بقدر ما يحوز الصراع الفلسطيني ضد الاحتلال. على سبيل المثال: رغم كل ما بذل الغرب من دعاية لحشد تأييد لأوكرانيا ضد روسيا، فإنّ «التعاطف» مع أوكرانيا بقي محدوداً بشكل كبير، ولم يتجاوز الدول الأوروبية والغربية، وحتى في تلك الدول كان هنالك انقسامٌ حادٌ حوله.
وبالمقابل، ورغم كل محاولات الحشد والكذب الإعلامي الغربي العلني، ومواقف القادة الغربيين المناصرة بلا قيد أو شرط للإجرام الصهيوني، فإنّ شعوب العالم بأسره، بما فيها الشعوب الغربية، قد عبّرت عن تضامن منقطع النظير مع الفلسطينيين وقضيتهم المحقة... ربما من السهل القول: إنّ القضية محقة وعادلة وواضحة، ولذا تحوز هذا القدر من التأييد، ولكن هذا ليس تفسيراً كافياً، لأنّ القضية ليست محقة اليوم فقط، بل ومحقة عام 2021، و2020 و2014 و2006 وإلخ، أي محقة عند كل معركة يجري خوضها، ومحقة الآن... ولكن لماذا تحوز الآن اهتماماً ربما لم تحزه منذ عقود؟
نعتقد أنّ بين الأسباب وراء هذا الاهتمام والتركيز، ما يلي:
أولاً: مع تعمق أزمات الغرب، ومع تراكم نفاقه وكذبه، خلال عقود وعقود، لا تبدأ بفيتنام أو العراق أو أفغانستان أو رواندا أو أوكرانيا، ولا تنتهي بفلسطين، فإنّ الآلة الإعلامية الغربية باتت «آلة دعاية مضادة»؛ أي أنّ اصطفاف الإعلام الغربي وراء الكيان الصهيوني، هو مؤشر كافٍ بحد ذاته بالنسبة لعدد هائل من الناس، كي يتخذوا الطرف المقابل، لأنهم باتوا مقتنعين قناعةً تامة بكذب الإعلام الغربي وبتحيزه ضد الحقيقة.
ثانياً: سواءً بسواء، فإنّ مواقف الزعماء الغربيين السياسية، هي الأخرى باتت مصدر دعاية مضادة؛ فكل ما يؤيده هؤلاء الزعماء، هو من وجهة نظر شعوبهم: شرٌ وزور وكذب وظلم. ولذا فإنّه حتى بالنسبة لمن لا يعرف بشكلٍ دقيق ما يجري في فلسطين، فإنّ مجرد وقوف الزعماء الغربيين ضد الفلسطينيين ومع الكيان، هو كافٍ تماماً بالنسبة له ليحدد موقفه بالضد من موقف هؤلاء الزعماء.
ثالثاً: المعنى الدقيق لما ورد في أولاً وثانياً، أي بما يخص الإعلام الغربي، والزعامات الغربية، يعني شيئاً آخر إضافياً؛ هو أنّ الاحتجاج الشعبي ضد الموقف المؤيد للصهاينة، هو ضمنياً أحد تعبيرات الاحتجاج الداخلي في الدول الغربية ضد أنظمة الحكم فيها، ويعني على المستوى العالمي أحد تعبيرات الاحتجاج ضد أنظمتها أيضاً، وضد المنظومة العالمية على حد سواء، لأنها باتت مقتنعة بأنّ أنظمتها المحلية، بمعظمها، هي امتدادٌ للنظام العالمي السائد، والمهيمن عليه غربياً، أو على الأقل الذي ما يزال الغرب يحاول الحفاظ على هيمنته عليه.
رابعاً: إنّ الأبعاد الموضوعية للقضية الفلسطينية هي أكبر بكثير من حدود فلسطين؛ فالمسألة ليست مجرد احتلال، بل هي إحدى التعبيرات المباشرة عن المنظومة الدولية القائمة على سيادة الغرب وسيادة منظومته الاستعمارية الناهبة؛ فالصهيونية ليست مجرد «حركة قومية»، بل هي أحد مراكز وأدوات النخبة المالية العالمية، التي لا تفتك بالشعب الفلسطيني فحسب، بل وبكل شعوب العالم. ولذا فإنّ الموقف منها هو موقف من الصراع من أجل عالمٍ جديد، موقف من الصراع ضد الاستعمار بأشكاله القديمة والجديدة، بأشكاله الوحشية المباشرة، والوحشية غير المباشرة الاقتصادية والثقافية.
بهذا المعنى، فإنّ القضية الفلسطينية هي ورقة عباد الشمس التي تكشف كل القوى حول العالم، لا بموقفها من فلسطين فحسب، بل وبموقفها من قضاياها المحلية أيضاً؛ وهذا لا يقف عند حدود التأييد اللفظي الذي يتلطى وراءه زعماء عديدون حول العالم، فمع اشتداد الصراع، تسقط الشعارات الكاذبة، وتظهر الأفعال الحقيقية، ولا يمكن إخفاء ذلك عن الشعوب، ولا التلاعب بهم باستخدامه.
خامساً: هذه المرة، المسألة ليست مجرد «مناحةٍ» تعاطفية مع الفلسطيني المظلوم، بل هي تعاطف مع الفلسطيني القوي السائر نحو تحرير أرضه؛ والناس بطبيعتها- ولا شك- تتعاطف مع المظلوم، ولكنها تتعاطف أكثر مع المظلوم حين يقف على قدميه ويرد الصفعة لظالميه، لأنها هي نفسها مظلومة بغالبيتها الساحقة، ويملؤها أملاً وحباً وفخراً أن ترى المظلوم يقف في وجه الظالم ويؤلمه ويذلّه... لأنّ ذلك هو المثال والنموذج الذي تسعى له هي نفسها. ولنتذكر أنّ حجم التعاطف الهائل مع فيتنام سار في خطٍ تصاعدي، ليس مع جرائم المستعمر الأمريكي وأعوانه من فرنسيين وبريطانيين، بل بالذات في خط تصاعدي مع صعود المقاومة الفيتنامية.
سادساً: وفي الإطار نفسه، فإنّ الصراع مع الصهيونية ليس صراعاً محدوداً بحدود فلسطين، أو حتى بحدود دول الطوق، أو منطقة «الشرق الأوسط»، بل وكما يقول النواب:
«أصبح ممنوع أن تستشهد
أو تدفع جيبك عند حدود الجيران وتستشهد أيهما إسرائيل
الخبز عليه علامة إسرائيل
حبات الرز عليها إسرائيل
المسجد والخمارة والصندوق القومي لتحرير القدس
بداخله إسرائيل
وأنت إذا لم تفهم لم تتعلم يا عبد الله
تمتصك إسرائيل»
وهذا ينطبق ليس على عبد الله فحسب، بل وعلى كل الخلق في كل أنحاء الأرض؛ فـ«إسرائيل» هنا هي رمز للصهيونية العالمية وللنظام العالمي الغربي الاستعماري.
وليس غريباً عندها أنّ الانقسام حول الموقف من القضية الفلسطينية، هو أحد المؤشرات على موقف أي حزب أو حركة في أي دولة من دول العالم، ليس فقط لأنّ الموقف تعبير واضح عن أية قيم وأهداف يتبنى هذا الحزب أو ذاك، هذه الحركة أو تلك، بل ولأنّه تعبيرٌ واضح عن أيّ موقف ملموس يتبنى من الصراع الداخلي في دولته نفسها؛ فـ«إسرائيل»/ أي الصهيونية، ليست فقط داخل المسجد والخمارة والصندوق القومي لتحرير القدس، بل وأيضاً داخل الكنيسة والكنيس وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الأوروبي والبنوك المركزية حول العالم، وداخل شبكات الإعلام المحلي والعالمي، وداخل المدارس والجامعات... أي أنها تعبير مكثف عن كامل التيار الاستعماري الغربي الممثل لمصالح مصاصي الدماء من الإمبرياليين، والذي يجد تمظهراته ومراكز تأثيره في كل صغيرة وكبيرة حول العالم، والذي يجب اقتلاعه من كل منها...
لذلك كلّه، فإنّ غزة مهمة جداً، وفلسطين مهمة جداً، وبالنسبة لكل العالم، ولكل الشعوب التي تناضل من أجل كرامتها وإنسانيتها وحقوقها... وبكلمة، فهي مهمة للإنسانية بأسرها في إطار صراعها مع الهيمنة الغربية، وفي إطار انتصارها عليها، وفي إطار انتقالها نحو عالم جديد عادلٍ وإنساني بحق...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1145