حول فلسطين و«التعاطف الإنساني» باستخدام «قفازات حريرية»!

حول فلسطين و«التعاطف الإنساني» باستخدام «قفازات حريرية»!

بينما تتفطر ألماً وقهراً قلوب الناس الطبيعيين حول العالم من هول الهمجية الصهيونية، يسعى البعض هنا وهناك، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، إلى تغيير إحداثيات التفكير في المسألة بأسرها، واضعاً سؤالاً واحداً فوق كل الأسئلة: «هل هنالك ما يستحق كل هذا العدد من الضحايا؟».. هذا السؤال الذي قد يبدو «بريئاً» و«إنسانياً» و«متعاطفاً»، يضمر في الحقيقة عدة أفكار:

أولاً: يضع مسؤولية الضحايا ضمنياً على المقاومة لا على الاحتلال...

أي أنه يقول ضمناً: «إنّه لولا هجوم المقاومة، لما وقع هؤلاء الضحايا». وكأنّ حياة الفلسطينيين قبل الطوفان كانت حياةً هانئة هادئة ليس فيها مئات وآلاف الضحايا كل عام، ومن الأطفال خاصة، عبر القتل المباشر وغير المباشر بالحصار والسجون والتعذيب والتهجير وسرقة الأرض والبيوت وإهانة الكرامات والقهر والقمع والفصل العنصري وإلخ... وكأنه لم يتم قتل ما يزيد عن 200 فلسطيني في الضفة وحدها منذ بداية هذا العام وقبل طوفان الأقصى.
بكلامٍ آخر، فإنّه بالنسبة لأولئك الذين يعرضون علينا حزنهم وتأثرهم بينما يطرحون سؤال «هل هنالك ما يستحق»، بالنسبة لهم، طالما يتم قتل الفلسطينيين دون ضجة إعلامية كبيرة، وكجزءٍ من روتين معتادٍ لوجود الاحتلال، فإنّ ذلك لا يمسّ مشاعرهم. بل وتبدو المسألة بأسرها «إزعاجاً» لنمط حياتهم السائر بعيداً تماماً عن أي اهتمام فعلي بالقضية الفلسطينية، وأنّ هذا الدم الذي ملأ الشاشات إنما يقلق راحتهم الشخصية، ويعكر صفو سريرتهم، لأنه يفرض عليهم اتخاذ موقف ما واقعي، بينما هم يسعون لبناء حياتهم ضمن واقعهم الشخصي، الذي غالباً ما يكون تافهاً وضيقاً.

ثانياً: «التعاطف مع الضحايا طالما هم ضحايا»!

من اليسير تماماً أن يتعاطف الإنسان مع الضحايا الفلسطينيين الذين يُقتلون بشكل يومي منذ 100 عام. ومن السهل جداً أنْ يبكي الإنسان على الفلسطينيين، وأنْ يحتفظ «بإنسانيته» عبر الإصرار على المظلومية التاريخية البيّنة والواضحة. ولكن بالنسبة للبعض تصبح الأمور معقدة حين يظهر الأمر كصراعٍ يتألم فيه الطرفان، حين تبرز أسنان المظلوم ومخالبه لتفتك بالظالم.
بالنسبة لهؤلاء «المتعاطفين»، فإنّ سريرتهم تبقى مرتاحة، ويبقى «موقفهم الأخلاقي» مطمئناً منسجماً إنسانياً، طالما القتل يجري باتجاه واحد، وكأنّ التعاطف وحده كافٍ ويمكنه أن يحل المسألة، أو بالأحرى فإنّ التعاطف والتألم لمعاناة الفلسطينيين هو الحد الأقصى الذي يقبل هؤلاء «المتعاطفون» بدفعه ثمناً لراحة ضميرهم. أما حين يبدأ المظلومون بضرب ظالميهم وإيلامهم، فإنّ هذا «الصفاء الروحي» يتكدر تكدراً شديداً، بل ويدخل أصحابه في مأزق؛ فهم معتادون على الدفاع عن الفلسطيني ضعيفاً مقهوراً، أما أن يكون الفلسطيني قوياً وقادراً على إيلام عدوه وإدمائه، فتلك سردية أخرى تدخلهم في جدالات ليسوا معتادين عليها، وربما ليس لديهم وقت لخوضها من الأساس... ولعل حجم النشاط العالمي الشعبي المناصر لفلسطين وللفلسطينيين، والذي اقترب بحجمه وضخامته من ذاك الذي جرى أيام فيتنام، يعيد لهؤلاء الآن هدوءهم وسكينتهم.

ثالثاً: «قياس النصر بعدد الضحايا»

انطلاقاً من «الدوافع الإنسانية الرقيقة»، ومن أنّ «كل روحٍ بشرية تساوي أي روح أخرى»، يستنتج أصحاب القلوب البيضاء هؤلاء، أنّ المحصلة هي أنّ الفلسطينيين قد تمت هزيمتهم في هذه المعركة.
هذا ليس بغريب على هذا النمط من الناس، الذي إما أنه لم يقرأ شيئاً عن تاريخ حركات التحرر الوطني عبر العالم بأسره، أو أنّه قرأ ولم يفهم ولم يشعر.
في المثال الفيتنامي، كانت عملية تيت TET مطلع عام 1968 هي نقطة الانعطاف التي فتحت طريق تحرير فيتنام وإعادة توحيدها. عملية نوعية تختلف المصادر في تبيان عدد القتلى فيها، ولكن الإحصائيات الأكثر مناصرة للأمريكان تقول: إنّه قد قتل فيها حوالي 500 أمريكي و500 من حلفاء الأمريكيين من حكومة جنوب فيتنام. بالمقابل فقد قتل بالحد الأدنى 13000 من مقاتلي ومدنيي المقاومة الفيتنامية بزعامة هوشي منه السياسية والجنرال جياب العسكرية، الذي خطط هذا الهجوم وقاده. هل خسرت المقاومة الفيتنامية المعركة؟ هل خسر الشعب الفيتنامي المعركة؟ يمكن للحمقى فقط أن يقولوا نعم.
هل هنالك ضرورة لعرض المثال الجزائري؟ مثال المليون ونصف شهيد؟ ربما ينبغي التذكير أنّ المثال الجزائري تضمن أيضاً قتلاً لمستوطنين فرنسيين على يد المقاومة، وهذا (أي الاستعمار الاستيطاني) يجعل الصورة قريبة نوعاً ما، مما جرى ويجري في فلسطين.
هل هنالك ضرورة لعرض مثال جنوب إفريقيا؟ المثال المصري؟ إلخ إلخ... دائماً ما كان الاستعمار أكثر قدرة على قتل أعداد أضخم بما لا يقاس مما يمكن للمقاومة أن تفعل. ودائماً ما كان الاستعمار ينتقم انتقاماً وحشياً من المدنيين بالذات، من النساء والأطفال والشيوخ، رداً على أي عملٍ مقاوم.
هل يجب أن تكون النتيجة هي أنّ المقاومة هي المسؤولة عن الضحايا؟ وعن الضحايا في صفوف شعبها خاصة؟
نعم، هذا ممكن فقط بالنسبة للمترفين البعيدين ليس عن القضية الفلسطينية فحسب، بل وعن الصراع الجاري في العالم بأسره، والذين يرجون المرور ضمن الحياة مرور النسيم الناعم الرقيق بعيداً عن الانخراط في مراراته وعذاباته والنضالات المطلوبة لتحويله جذرياً.

إنّ المشاعر الإنسانية الحقة الصادقة، ينبغي أن تكون مشاعر واقعية ملموسة، لا أن تكون شكلاً من الزهد والتنسك. المشاعر الإنسانية الصادقة لا تكون كذلك إلا حين تفهم الواقع القائم بمراراته وقذاراته التي يجب تغييرها واقتلاعها، وبصراعاته التي يجب خوضها حتى النهاية... ليس هنالك أسهل من التعامل مع الواقع بقفازات «أخلاقية نظرية»، طبعاً بالنسبة لمن يملك ترف امتلاك هكذا قفازات. أما الغالبية الساحقة من الناس، التي تعرف معنى العراك والصراع بشكل يومي، ابتداء من الصراع من أجل رغيف الخبز، ومن أجل المأوى ومن أجل التعليم والصحة وأبسط الحقوق... بالنسبة لهذه الغالبية، فإنها لا تتعامل مع الصراع بوصفه شيئاً طارئاً على «حياة هادئة هانئة»، بل هو جزء من تكوينها وتركيبتها أرغمت عليه إرغاماً، ولا خلاص لها دون أن تعتنق صراعها وتطور أدواتها فيه بشكل مستمر حتى الإجهاز على عدوها... وهو ما تفعله وستفعله وصولاً إلى واقع إنساني حقيقي، لا واقع إنساني متخيل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1145