عن الكرامة والجوع... مرة أخرى
يصل إصرار البعض على الفصل بين «الكرامة» و«الجوع» حداً عجيباً، كأنما هو الوسواس القهري!
إذا حاولنا تتبع منابع هذا الإصرار، يمكننا- وعند سطح الظاهرة- أن نجد نوعاً من المناكدة والمجاكرة والمعايرة؛ فحين بدأ التظاهر في السويداء مؤخراً، تبرّع عدد غير قليل من «الثوريين» المنتمين إلى موجة 2011 بالهجوم على هذا التظاهر المستجد وازدرائه، والنظر إليه بتعالٍ عبر القول: إنّ الذين خرجوا للتظاهر في 2011 هم طلاب كرامة، أما من «يلتحقون» الآن، فهم جائعون يطلبون الخبز، وشتان بين هذا وذاك.
وفي إطار الرد على هؤلاء، سارع بعض المشتركين في الحراك، وكذا بعض الإعلام المتحكم إلى القول: «لا لسنا جائعين بل نحن طلاب كرامة»، بل وأكثر من ذلك، وللتدليل على «لسنا جائعين»، تم بذل المناسف وتوزيعها، إضافة إلى طرح بعض الشعارات والهتافات التي تصب المصب نفسه.
في العمق
إذا حاولنا اختراق سطح هذه الظاهرة والدخول إلى عمقها، أي بكلام واضح: إذا تركنا «المجاكرة» والرد عليها جانباً، وحاولنا التفكير بمسؤولية في معنى المسألة كلها، لظهرت أمامنا صورة مختلفة تماماً.
أولاً: ينبغي أن نتذكر أنّ لعبة «كرامة X جوع» ليست وليدة اليوم، بل جرى العمل عليها أيضاً في الأشهر الأولى من 2011. ومن خلالها جرى الهجوم على كل أنواع الشعارات الاقتصادية- الاجتماعية، بحيث تم قمع هذه الشعارات، ومنعها من الاستمرار رغم أنها كانت موجودة في بدايات الحركة.
ثانياً: قمع الشعارات الاقتصادية الاجتماعية كان يهدف إلى تحويل الحركة بأكملها إلى مجرد أفواه تردد شعاراً واحداً لا غير «الشعب يريد إسقاط النظام»، مع تنويعاتٍ مختلفة تصب في المصب نفسه، ودون أي برنامج للبناء اللاحق، لأنّ المطلوب كان أن يتحول الناس إلى مجرد أفواه صارخة، وعسكر في جيش أولئك الذين تم فرضهم بوصفهم «ممثلين للشعب السوري».
ثالثاً: مثال 2011 يعلّمنا أنّ هؤلاء الذين قدموا أنفسهم «ممثلين للشعب السوري»، وباسم الكرامة والحرية وإلخ، لا يختلفون في الجوهر الاقتصادي الاجتماعي عن النظام الذي يدّعون معارضته؛ أحد أبرز الأمثلة على ذلك: هو برنامج الإخوان المسلمين لعام 2005، والذي يعلن تبنيه «الاقتصاد الحر» بما يتضمنه من خصخصة ورفع دعم وارتباط اقتصادي بالغرب، أي فعلياً البرنامج نفسه الذي يتم تطبيقه في سورية منذ عقدين تقريباً، والذي كان سبباً أساسياً في انفجار الأمور عام 2011، وفي بدايات انفجارها مجدداً عام 2023.
رابعاً: وإذاً، فإنّ التعالي والتكبر على الشعار الاقتصادي الاجتماعي، تحت مسمى «الكرامة»، ليس الغرض منه حفظ كرامة الناس ورد الإهانة عنهم، بل العكس تماماً؛ فتغيير الأنظمة نوعان، الأول: هو تغيير شكلي سطحي يقوم على تبديل الطرابيش، أو تجميلها، مع إبقاء النظام الاقتصادي الاجتماعي على حاله، أي ببساطة تجري إعادة تقسيم السلطة والنهب بين الناهبين، ويبقى المنهوبون منهوبين... وهذا ينفع معه كثيراً أن يتم تغييب الشعار الاقتصادي الاجتماعي، وأن يتم التعالي على الجوع كي يكون الناس مجرد جند عند الناهبين، الذين يريدون إعادة تقسيم النهب بينهم. الثاني: هو تغيير جذري حقيقي، يعيد توزيع الثروة والسلطة بين الناهبين والمنهوبين، بحيث ينتزع المنهوبون حقوقهم أو على الأقل جزءاً مهماً منها... وهذا كما هو واضح، ليس في مصلحة الناهبين، لا على هذه الضفة ولا على تلك.
أحد أكبر أخطاء 2011 هي تغييب الشعار الاقتصادي الاجتماعي. إذا كنا نريد تغييراً حقيقياً، فعلينا أن ندمج الشعار السياسي المتمثل بتنفيذ كامل للقرار 2254 بما يتضمنه من انتقال سياسي، مع الشعار الاقتصادي الاجتماعي الذي يشكل بوصلة بيد الناس وورقة عباد شمس، تميز بين من يخدم حركة الناس ومصلحتها باتجاه التغيير، وبين من يريد امتطاء الحركة وتحويلها إلى مجرد عسكر لتحقيق مصالحه، وبالضد من مصالح الحركة ومصالح الناس.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1140