من سوليدير بيروت إلى ساروجة دمشق - عن قتل الذاكرة واغتيال روح المجتمع!

من سوليدير بيروت إلى ساروجة دمشق - عن قتل الذاكرة واغتيال روح المجتمع!

ما يتعرض للاحتراق في دمشق القديمة، ليس مجرد معالم أثرية وتاريخية، بل هوية وروح مجتمع بأسره؛ فالمراحل الثلاث الأساسية في اغتيال الدول والشعوب باتت مكررة وواضحة: بدءاً من اغتيال جهاز الدولة المدني عبر «خصخصته»، أي إنهاء وظيفته الاجتماعية بالتدريج، ومن ثم اغتيال قسمه الصلب العسكري، أيضاً عبر شكل خاص من «الخصخصة» يقوم على إنهاء حصرية السلاح وتحويلها إلى «حصريات» عديدة... وبعد هاتين الخطوتين اللتين تحولان جهاز الدولة إلى حالة موت سريري، تبقى خطوة واحدة نحو الموت الكامل: سحب أجهزة التنفس، عبر قتل ذاكرة المجتمع وروحه.

لا يمكن للمرء أن يرى حرائق الشام القديمة المتكررة، وآخرها ما جرى في ساروجة مؤخراً، دون أن يحضره مثال سوليدير اللبناني الذي شكل المرحلة الثالثة في اغتيال لبنان، وجاء بالضبط في «نهايات الأزمة- الحرب اللبنانية»، كما هو الأمر الآن مع «نهايات الأزمة- الحرب في سورية».
ولذا، فمن المفيد في هذا السياق، أن يتعرف القارئ السوري عن قرب، على بعض المفاصل الأساسية في ملف «سوليدير»...

في سياق «إعادة الإعمار»

أخذ ملف «إعادة إعمار» بيروت الكثير من النقاش، وتحديداً تحت عنوان «إعادة إعمار المدن بعد الحروب أو الكوارث». وذلك من عدة جوانب؛ منها: المعماري والمدني والسياسي والتاريخي والاقتصادي والطائفي. واعتبره البعض نموذجاً للتوحش الضمني المرافق للنموج النيوليبرالي الذي بدأ يتوسع بشكل مفرط مع انهيار الاتحاد السوفييتي تحديداً الذي «يصادف» تاريخ توقيع «اتفاق الطائف» حول لبنان.

لم يكن «اتفاق الطائف» بما يخص التسوية الدولية والإقليمية والداخلية للحرب الأهلية اللبنانية إلا هدنةً مؤقتة للشكل العسكري من تلك الحرب، فيما بقيت أسباب الحرب فاعلة، لا بل كان الاتفاق نفسه عاملاً في تعميق تلك الأسباب عبر توزيع حصص «الهيمنة» على «الطوائف اللبنانية»، وعملياً على تجار الحرب الذين جرى تنصيبهم ممثلين للمجتمع دون استشارته ورغماً عنه؛ فالنموذج الطائفي للنظام السياسي يفترض هيمنة «طائفة» على حساب البقية لتماسكه الشكلي، وما إن انفرط عقد «التماسك الهيمني» حتى انفتح النظام على تفكك مستمر ما زال يتعمق دون إمكانية لحلّه على أساس الشكل الطائفي نفسه، منفجراً معارك عسكرية من وقت لآخر، لم تتطور لحد مستوى حرب أهلية محكوماً بالانهيار الاقتصادي والمالي، الذي هو نتيجة النموذج الاقتصادي الذي ساد طول العقود التي تلت هدنة الطائف.

لا يخرج ملف «إعادة الإعمار»، والذي أخذ شكله الأنضج في مدينة بيروت، عن هذا النموذج الريعي المعادي لأي شكل من الإنتاج، والمعادي للغالبية الساحقة من الشعب. فالمشروع الذي بدأ التحضير له في العام 1983 (ولم يبدأ تنفيذه إلا في عام 1993 بسبب المعارك التي تجددت بعد 1983) عبر شركة «سعودي أوجيه» (فرعها اللبناني أوجيه- لبنان)، التي صارت لاحقاً «الشركة اللبنانية لتطوير إعادة إعمار وسط بيروت»، المملوكة لرئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري (دخل الحريري إلى السياسة من هذا الباب كممثل للمملكة العربية السعودية) وتجاهل توصيات مشاريع سابقة (في عام 1977، وآخر في عام 1978)، وحتى توصيات الفريق الهندسي الذي كان على رأسه وقتها الوزير السابق شربل نحاس والمعادي لمشروع «وسط بيروت» كما تم تنفيذه لاحقاً.

التوصيات كانت تهدف بشكل عام إلى معالجة نتائج الحرب التقسيمية من خلال تشكيل وسط مدينة لا يعيد فقط واقع المدينة كما كان قبل الحرب، أي في كونها مركزاً سكنياً واقتصادياً وتجارياً ومركزاً لخطوط النقل، والمساحات العامة، لكل النسيج الاجتماعي، وتحديداً إعادة ترميم الطابع التراثي للأبنية والثقافية، بل أيضاً استهدف أن يكون وسط المدينة مساحة جامعة تعمل بالضد من عملية التقسيم الاجتماعي والمناطقي والديمغرافي... الأمر الذي جرى نسفه فعلياً، وجرى تنفيذه بطريقة مختلفة تماماً؛ وللمفارقة، فقد تحول «وسط بيروت» إلى جامع حقيقي، ولكن للباشوات تجار الحرب والمستثمرين الأجانب والفاسدين واللصوص، وبات أشبه بجزيرة معزولة لا علاقة لها لا ببيروت ولا بلبنان، إلا من حيث هي أحد مراكز نهب لبنان وبيروت...

في المعالم العامة لمشروع «إعادة الإعمار»

في كون التسوية هي تأجيلاً وليست حلاً للتناقضات؛ كانت أهم المعالم المعمارية والمدنية لمشروع «إعادة الإعمار» هي طمس ونكران الحرب من جهة، ما أنتج على المستوى المعماري محواً للعاصمة كما كانت عليه قبل الحرب، ومن جهة أخرى، وكما حصل مع ملفات عديدة أخرى منها طمس ملف المفقودين، والمجازر الجماعية، وسياسياً نكران الخيانة الوطنية، وغيرها. فكان ملف إعادة الإعمار المكافئ المعماري والمدني لهذا النكران والطمس لأسباب الحرب وأحداثها، وكأن القوى السياسية الحاكمة اتفقت على الصمت، فتم خنق المدينة وصوتها.

يجمع الباحثون في قضية «إعمار وسط بيروت» أن المشروع كان جريمة بحق المدينة. ولأن القضية متعددة الجوانب، يمكن المرور سريعاً على أهم عناصرها. أولاً: قبل الحرب، شكلت المساحة السكانية والصناعية من وسط بيروت حوالي 42%. هذه المساحة تم القضاء عليها تقريباً بعد المشروع. ثانياً: تم تجريف غالبية الآثار المعمارية التي يعود بعضها للعهد الروماني بحجة تسريع العمل. ثالثاً: تم هدم غالبية المباني التراثية، وتحديداً البيوت. رابعاً: تم حصار وسط المدينة بمجموعة من الطرقات السريعة التي تعزل الوسط عن «ضواحيه» الشعبية، وفي الوقت ذاته تعزل الضواحي نفسها عن بضعها على أساس الفروقات «الطائفية». سادساً: صارت الهوية الأساسية للوسط قائمة على ثقافة الاستهلاك المعولم، والمجمعات التجارية «المولات» التي ضمت الماركات العالمية بشكل أساس، وما رافقها من مواقف للسيارات ابتلعت المساحات العامة. سابعاً: وهنا الجانب المباشر لعملية النهب المنظم والتي شهدنا آخر فصولها في السطو على أموال المودعين من قبل المصارف مؤخراً، حصل المشروع على أساس استملاك مجحف للمباني والعقارات بأسعار «تخمينية» مخفضة، فتم شراء العقارات والمباني بثلث حقها، وأحياناً أقل (يمكن مراجعة ملف أصحاب الحقوق في وسط بيروت، واللذين أصيب بعضهم بنوبات قلبية على الهواء مباشرة). هذه هي بعض المعالم الرئيسية لما رافق مشروع «سوليدير».

نتيجة المشروع اليوم

من جهة، لم ينجح مخطط «السلام» المزعوم في المنطقة مع الكيان الصهيوني (كانت تلك أحلام ورغبات التيار النيوليبرالي وممثليه في المنطقة)، ومن جهة أخرى، تعمقت أزمات النظام اللبناني على وقع اشتداد التناقضات عالمياً وإقليمياً. وفشل نموذج الريع كقاعدة لهوية وسط المدينة الذي قال عنه البعض: إن المقصود منه كان «مركز أعمال» (Central District) لا «وسط تجاري»، ما أنتج فراغاً مدينياً، صار لاحقاً «مدينة أشباح» وحصناً لأبراج معزولة، محصنة من قبل شرطة وأجهزة رسمية وغير رسمية على وقع تراجع السياحة من جهة، والاشتبكات المتكررة في العقد الأخير، وآخرها الاحتجاجات في الأعوام الثلاثة الماضية، التي اعتبرها البعض، وبمعزل عن نتيجتها السياسية وأزمة مشروعها السياسي، أنها أعادت روحاً ما لقلب المدينة البارد والفارغ، وأعيد تسيير بعض المرافق المغلقة التاريخية كسينما البيضة ومسرح تياترو بيروت، حيث صارت مركزاً للنقاشات والاجتماعات السياسية والثقافية والفنية، وهناك ظاهرة الأسواق الشعبية (مثال سوق أبو رخوصة) التي كرهتها النخبة الحاكمة، وتحديداً مصرفيوها. ما سبق على رمزيته، أظهر أن هوية المدينة لا يمكن أن تفهم إلا ضمن الصراع السياسي- الاقتصادي الأوسع، فعودة الحركة السياسية وحدها أعادت لوسط المدينة حياته، ولو بشكل نسبي وجنيني.
وهكذا، كان فشل مشروع «إعادة إعمار وسط بيروت» تعبيراً فاقعاً عن فشل التجارب الليبرالية، وعن نتائجها المدمرة والتقسيمية والإلغائية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1132
آخر تعديل على السبت, 06 كانون2/يناير 2024 13:30