«العدالة الاجتماعية».. «شبح الستالينية» الفكرة والشخصية الأكثر رواجاً الآن في روسيا!
التحولات العاصفة تتوالى وتتكثف في كل أرجاء العالم على وقع الصراع المتفاقم بين القوى الصاعدة، وقوى الغرب المتراجعة في شتى المجالات. بالتوازي، فإنّ التناقضات الداخلية في كل مجتمع وفي كل دولة على حدة، هي الأخرى ترتفع وتتعمق. روسيا ليست استثناءً؛ بل إنّ حجم وعمق التناقض الداخلي فيها يتناسب مع حدة المعركة التي تخوضها خارجياً.
ليس خافياً، أنّ عملية تدمير الاتحاد السوفييتي وما جرى بعدها من إذلالٍ ممنهج لروسيا، ولكل شعوب الاتحاد السوفييتي السابق، لم يقف عند حدٍ أو عند نوع بعينه، بل شمل الإذلال السياسي والثقافي والاقتصادي، بالتوازي مع التخريب الواسع النطاق بكل مجالات الحياة، وعلى رأسها الثقافة والإعلام اللذين سادت فيهما طوال سنوات طويلة النيوليبرالية بأفظع أشكالها وأكثرها إجراماً.
في سياق الصراع الجاري، فإنّ روسيا والشعب الروسي محكومون باستدارة جذرية في السياسات الداخلية وبجانبها الاقتصادي الاجتماعي والثقافي والسياسي.
منذ بدأت معركة أوكرانيا، بدأت المؤشرات الأولية لهذه الاستدارة بالظهور تباعاً، مع أنها حتى اللحظة ما تزال متواضعة مقارنة بما تطلبه الحياة. ربما بين المؤشرات المهمة على طبيعة المرحلة وطبيعة احتياجاتها، وما ينتجه ذلك في الوعي العام الروسي، المؤشر الخاص بشخصية ستالين وإرث هذه الشخصية وكيفية التعامل معه، على المستوى الشعبي والرسمي.
في المواد التالية، نعرض لمحات خاطفة من صورة واسعة تزداد عناصرها بشكل يومي في فضاء الثقافة والإعلام في روسيا؛ حيث يحضر ستالين ليس كرمزٍ فقط، وإنما كبرنامج عمل لا بديل عن الاستناد إليه وتطويره بوصفه تمثيلاً لأعلى منصة معرفية وتطبيقية وصلتها الحركة الثورية في موجتها السابقة.
بورتكا على روسيا 24
فلاديمير بورتكا، مخرج سينمائي روسي معروف، والمقتطفات التالية التي ننشرها نصاً، هي بالأساس تعليق تلفزيوني قدمه بورتكا على القناة الروسية الرسمية روسيا 24 قبل أيام (سيتم نشر الفيديو مترجماً إلى العربية على موقع قاسيون الإلكتروني ومعرفاتها على منصات التواصل الاجتماعي).
العدالة الاجتماعية!
خلال عام من العملية العسكرية الخاصة القائمة الآن، أو بشكل أبسط بداية الحرب الوطنية العظمى الثالثة، يبرز لدينا السؤال التالي: لماذا يقف الأوكرانيون، الذين عشنا معهم على مدى مئات السنين في دولة واحدة فعلياً.. لماذا يعارضوننا بهذا العناد؟ بالطبع في مدة عشرين عاماً، بشكل محموم ويمكن حتى القول بنجاح عملوا على تحويلهم إلى زومبي (غسلوا أدمغتهم) إن الأوصياء الغربيين كانوا يعملون، ربما يصلون لمستوى العمل الأمريكي، نعم لكن، لماذا، أولئك الذين كنا نعتبرهم إخوتنا، والذين يرتبط الكثير منا معهم بروابط الدم تبنّوا بسهولة هذه الروسافوبيا (رهاب الروس) بل أكثر من ذلك، نفّذوا في الواقع إبادةً بحق سكان الدونباس الناطقين بالروسية. ما هي الفكرة التي وقعت في قلب الأوكراني العادي وأصبحت قريبة لعقله؟ الجواب ظاهر بنفسه: إنها عقيدة التعصب القومي؛ إنها عقيدة من أكثر العقائد قوة. يمكن تلقّيها وتبنّيها بسهولة كبيرة، هي ذاتها التي في غضون 12 عاماً حوّلت الألمان المثقَّفين والليبيراليين إلى نازيِّين. ما الذي نتج عن هذا الأمر؟ الجميع يعرف. هنا لا بدّ من توضيح فارق مهمّ ما بين الشعور القومي ـ عندما نشعر أننا نحن «جيّدون» ـ وما بين التعصب القومي/ النازية ـ عندما نعتبر الآخرين سيِّئين ـ لكن الأول يمكن له بسهولة أنْ يتحوّل إلى الثاني؛ هذا ما حصل في أوكرانيا... حيث أصبحنا لا روساً بل «أوركي» ـ أيْ عفاريت هكذا تعمل إيديولوجيا النازية. ما الذي يمكن له أن يواجه هذه الإيديولوجيا؟ وسؤال: «إلى أين» أكثر أهمية ما الذي يجب قوله لجنديِّنا الذاهب إلى القتال؟ ما الذي نحمله معنا إلى أوكرانيا؟ الأمر الذي سيعتبر للأوكراني الذي يعادينا ثميناً وعادلاً، ليس لنا فقط.. بل وله أيضاً. نعم إنها أرضنا المشتركة، نعم إنّ هذه الفكرة صحيحة تماماً، وأنه من دون هذه الأرض سيكون صعباً علينا حماية أنفسنا من الأعداء الذين يأتون لغزونا بشكل متكرّر منتظم تقريباً كل مئة عام. إنّ الأمر على هذا النحو إذا لم نتمكّن من الصمود في هذه الحرب ولم ننتصر فيها، ينتظر روسيا السقوط والدمار، هذه هي الحال، لكن هذا بالنسبة لنا رمز قوي من أجل القتال، أما بالنسبة للأوكرانيّ فلا معنى له بل يتلاءم بشكل كامل مع الأكاذيب البانديرية «موسكالياكو ناديلياكو» ـ[يسخر من التسمية التي أطلقها القوميون الأوكران على روسياـ ماذا نستطيع أن نقدّم بالمقابل في مواجهة الخصم الواقف أمامنا؟ بالطبع هناك حب الوطن، لو أنّ الحرب كانت قائمة على أرضنا لكان هذا الدافع فعالاً بشكل قوي جداً، لكننا نحارب في بلد آخر، إنها أرضنا بلا جدال، لكنها رسمياً بلد آخر، يجب أن نستجمع الشجاعة ونقول: اسمعوا يا شباب هنالك إيديولوجيّتان إما القومية- لكن لدينا التتار والياكوتيين ورمضان قديروف أو- سابقاً لكنت قلت- الاشتراكية، أما الآن فسأقول إيديولوجيّة العدالة الاجتماعية. ما الذي وحّدنا على مدى 80 عاماً؟ ما الذي أجبرنا معاً على مجابهة ما هو أفظع حتّى من الحرب مع ألمانيا؟ إنها إيديولوجية العدالة، التي كانت المعبِّرة عن فكرة الاشتراكية. كانت الفكرة تبدو طوباوية لكن لا، ففيها لا يوجد أوكرانيّون وروس؛ إنّها فكرة توحِّد الشعوب، تركت داري وذهبت للقتال لكي أعطي الأرض للفلاحين... هذه هي الفكرة التي وحَّدت البلاد وساعدتْها في الانتصار في الحرب.
إنّ ما أتكلّم عنه لا يدّعي الحقيقة المطلقة بأيّة حال.. بل هي تأمّلاتٌ خاصّة، كيف أجعل بلدي أفضل؟ إلى أين يمكن لها أن تتقدم؟ أريد الحديث عن روسيا نفسها ما الذي تقدمه للعالم؟ وما هي ماهيّتها؟ بشكل عام روسيا بلد معقَّد التكوين إلى أقصى حدّ، تجمع العديد من الشعوب والديانات. بهذا الأمر تتميز مثلاً عن فرنسا وألمانيا، حسناً في فرنسا وألمانيا أيضاً يعيش عدد كبير من الناس من قوميات وثقافات أخرى في ألمانيا يعيش قرابة 5 مليون تركي لكن مهما بلغ عدد الأتراك المهاجرين، فألمانيا ستبقى ألمانيا دولة للشعب الجرماني، ومهما بلغ عدد العرب المهاجرين إلى فرنسا فإنها ستبقى فرنسا، أمّا روسيا فهي بلد اتحادي يتكون من العديد من الشعوب الذين لم يأتوا مهاجرين من مكان ما، بل يعيشون على أراضيهم التاريخية. ما الذي يجبرنا جميعاً على العيش معاً؟ هل هو التاريخ المشترك؟ طريق التطور المشترك؟ وحدة الشعوب تحت سقف بيت مشترك؟ نعم، وببساطة معرفتنا، أننا إذا كنا معاً فهذا أفضل بالطبع، لكن أوكرانيا عاشت مع روسيا مئات من السنين، لكن ها هي النتيجة، لماذا حدث هذا؟ ما الذي جرى؟ لقد ساعد في حدوث هذا الأمر «المتطوعون» من خلف المحيطات؟ بلا أدنى شك غباء الأشخاص الذين يقودون البلد؟ بالطبع بخل قيادات الجمهوريات التي هربت من الاتحاد (السوفييتي)؟ نعم وهذا أيضاً لكن الأهم، هو تدمير العصب الأساسي الذي كان يحافظ على الاتحاد في وحدة متينة، الفكرة التي كانت توحد الجميع، كل الشعوب والديانات المتنوعة... إيديولوجية الاشتراكية.
سأعيد صياغتها مرة أخرى؛ إنّه مفهوم العدالة الاجتماعية، هذه الإيديولوجية هي التي جعلت الاتحاد السوفييتي متماسكاً والحرب الوطنية العظمى هي خير ما أظهر ذلك.
هتلر، كان يعتقد أننا سننهار على الفور، لكن اتضح العكس، لم ننهَر، بل وقاتلت كلّ الشعوب كشعب واحدٍ. إنها الفكرة الأكثر قوّة، ثم ها هو الرفيق خروتشوف قد دمّر كلّ شيء والاتحاد السوفييتي لم ينهَر عام 1991 بل عام 1956 من القرن العشرين. خروتشوف من خلال رغبة بتقوية سلطته ولمدة طويلة كفاية، ساد اعتقاد أنّ هذا يقوي البلد أيضاً، والاشتراكية هنا انتهت وكما يقول الليبيراليون: إنها «أظهرت فشلها» ـ لكن أصحيح هذا؟ يوجد في هذا العالم دولةٌ شبيهة ببلدنا رغم أنها في الوقت ذاته بعيدة جداً إنها دولة الصين بلد اشتراكي كما كنا نحن، لكن الصينيين قد غيّروا الاقتصاد، وهذا ما كان من الضروريّ القيام به للتلاؤم مع التغييرات الحاصلة في العالم، ولكنهم أبقوا على الإيديولوجية ذاتها تلك التي تجمع بلداً شديد التعقيد كما بلدنا، الصينيّون الشماليّون لا يفهمون لغة الجنوبيين، الرموز الكتابية نفسها، لكن اللغات مختلفة دون الحديث أيضاً عن أقاليم الإيغور أو التيبت التي تقطنها شعوب مختلفة، لكن تجمعها حتى الآن فكرة الاشتراكية، فكرة العدالة الاجتماعية، أيْ فكرة أننا نبني عالماً جديداً، إنساناً جديداً.
أمام البشرية: إمّا الاشتراكية أو الفناء، لماذا؟ لأنه يكفي ببساطة النظر فيما حولنا لنرى التهديدات الهائلة المقبلة للتغير المناخي، وفهم أنه من الضروري اتخاذ إجراءات عاجلة على مستوى العالم، إذا ما أردنا أنْ نحيا جميعاً وأن يحيا أبناؤنا وأحفادنا. أي أننا بحاجة إلى تدابير لا تعتمد على «تنظيم السوق لنفسه»، بمعنىً آخر، إجراءات لتغيير النظام الرأسمالي القائم في الشكل الموجود الآن في الوقت الحالي، مع العلم أنّ هذه التدابير يجب أن تكون طوعية وواعية من قبل كل البشرية، وما هذا سوى الاشتراكية وإلّا فما هي الاشتراكية؟ هي نظام اقتصادي، حيث تكون فيه عملية الإنتاج وتوزيع الثروة خاضعة لسيطرة المجتمع، وتهديد وجود الحياة على سطح الأرض سيجبر، بل إنه يجبر سلفاً لأخذ زمام السيطرة من قبل كلّ المجتمع وبعد، أنا لا أعيش لأندب الماضي وانتظار عودة ستالين أو خروشوف، والعيش معهم، أنا مهتمٌّ بما يمكن أن يجمع ويوحّد بلادنا، ما يجعلها أقوى، وبالتساؤل عمّا جعلها تنهار، وبِمَ تمكّن البلاشفة من توحيد البلاد؟ إنها الفكرة، فكرة أننا سنعيش بعدالة، فكرة العدالة تغيِّر الجميع من كلٍّ حسب استطاعته ولكل حسب عمله، حيث لا وجود للروسيّ ولا للهندي أو اليهودي بل هنالك إنسان واحد هو الإنسان السوفييتي. بالنسبة لإفريقيا، لآسيا ولأمريكا اللاتينية، كنا أصدقاء كما كانت مفهومة مواقفنا، لم يكن لدينا سود أو ملوّنون، كنا كلّنا متساوين، وسنساعدكم نعم، كانت هذه صداقة حقيقية، أنا أتذكر هتافات «كوبا تيررا ليبرا» ـ أي: كوبا أرض حرة، وأتذكّر تشي غيفارا الملتحي والعرض العسكري المذهل في 26 حزيران للترحيب بفيديل. إني الآن لأرغب بالبكاء، أما الآن؟ آخ الآن، ليس كما سبق، لسنا أكثر من «معارف» يا للغرابة (من قصيدة للشاعر ليف بينكوفسكي، عشرينات القرن العشرين) كنا نحمل مفهوم العدالة، الإنسان صديق للإنسان، نحن نساعد بعضنا، لأن هذا عادل ـ «لينين»، هذا ما هو مكتوب على الضريح ـ لم يتم رمي الرايات والشعارات الفاشية للأعداء أمام شخص لينين، ولا ستالين، بل أمام فكرة العدالة المنتصرة. إن نقش «لينين» على الضريح لهو معادل لكلمة «العدالة» وتغطية الضريح بالألواح الخشبية ما هي إلا محاولة للفصل عن فكرة العدالة، القريبة والمفهومة من الناس في كل العالم... توجد فكرتان قادرتان على إحياء الشعب: فكرة التعصب القومي، التي لا تعتبر أفضلهما، وفكرة المساواة والعدالة للجميع. اذهبوا إلى إفريقيا، آسيا، أمريكا اللاتينية وحتى إلى فرنسا أو أوكرانيا وأنتم تحملون هذه الفكرة، ستكون مفهومة في كل مكان هذه هي الفكرة ـ
أريد أن أكرّر مرة أخرى: لا يمكن إعادة الماضي، ولا يمكن إعادة أشكال قديمة من الدولة، فأمامنا ينتصب واقع جديد، ونحن بحاجة إلى مسار إلى تقدُّمٍ مستدام، ولا مراوحة في المكان بل تقدُّمٌ للأمام؛ حانت اللحظة التي أصبح فيها التباطؤ مساوياً للهزيمة، ولكان من الجيّد أن يستند التقدُّم الاقتصادي على الفكرة القديمة «العدالة الاجتماعية».
شبح يجول في روسيا: شبح الستالينية!
ألكسندر بروخانوف هو رئيس تحرير جريدة «الغد- زافترا» الروسية، وهو مشرف أساسي على تلفزيون اليوم День ТВ وهو منبر من أهم منابر صنع الرأي على المستوى الأكاديمي في روسيا.
«شبح يجول في روسيا، شبح الستالينية. وفقاً لاستطلاعات الرأي، يعتبر 70٪ من الناس ستالين بطلاً إيجابياً في التاريخ الروسي. الرئيس السابق ميدفيديف، المدافع عن الدولة الأوليغارشية، كمثال أمام الوزراء الحاليين، يقتبس برقية ستالين، التي أرسلها إلى مديري مصانع الدفاع.
قريباً جداً، سيتخلص ليبراليو المحاكم المتحمسون من مناصبهم في الشبكات الاجتماعية، حيث حكموا على ستالين والقرن السوفييتي. ماذا حدث؟ ما هو سوء الحظ الذي حل على المتحولين الذين كانوا قبل ثلاثين عاماً أعضاء في الحزب، وسكرتيرات للجان المقاطعات، ثم البيريسترويكا والديمقراطيين الغربيين، ثم الوطنيين والملكيين؟ الآن جلد الحرباء بدأ يتغير لونه مرة أخرى. هناك عدد أقل من الطحالب الخضراء المزرقة فيه، والمزيد المزيد من اللون الوردي والأحمر. السبب هو: أن الدولة الأوليغارشية التي بناها يلتسين وغايدار على عظام الاتحاد السوفييتي المدمر فشلت خلال العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا... [ولم يعد هنالك من بديل عن استحضار ستالين من جديد]».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1116