هل يتم تسييس الزلزال؟ تسييس المساعدات؟ أم أنّ المسألة سياسية من الأساس؟
ريم عيسى ريم عيسى

هل يتم تسييس الزلزال؟ تسييس المساعدات؟ أم أنّ المسألة سياسية من الأساس؟

بعد ما يقارب الأسبوعين على وقوع الزلزال المدمّر الذي ضرب سورية وتركيا، ما تزال أجهزة قياس شدة الزلازل تسجّل الهزات الارتدادية، التي عادة ما تحصل بعد كل زلزال كبير، والتي تنخفض قوتها شيئاً فشيئاً إلى أن تتلاشى. وذلك على عكس ما يحصل على المستوى الإنساني، حيث تزداد قوة الهزات الارتدادية في جانبها الإنساني في كافة المناطق التي تضررت من الزلزال، وخاصة منها تلك التي في سورية.

بينما ليس ممكناً بعد تقدير الأضرار البشرية والمادية بشكل دقيق، فإنه من الممكن الشعور بهول تلك الأضرار وفداحتها، من عدد الضحايا إلى عدد الأبنية التي انهارت، إلى عدد الناجين الذين تشردوا بعد أن بات كل ما لديهم ركاماً.
كل هذا يعني أن الاحتياجات الإنسانية في سورية، والتي كانت بازدياد مستمر خلال سنوات الأزمة، تضاعفت عدة مرات بين ليلة وضحاها، والاحتياجات الأخيرة التي كانت على الأقل بشكل مباشر نتيجة الزلزال، كما في أي بلد يتعرض لكارثة إنسانية بهذا الحجم، تتطلب استجابة محلية ودولية سريعة.
دولياً: بدأت بعض الدول بإرسال طائرات وقوافل مساعدات إلى المناطق المتضررة أيضاً بشكل سريع، ولكن على المستوى الأممي كان هناك بطء ملحوظ وواضح في الاستجابة.
محلياً: على الأقل على المستوى الأهلي والشعبي، فقد كانت الاستجابة سريعة، ومنذ الساعات الأولى بعد حدوث الزلزال، تهافت الكثير من السوريين لمساعدة بعضهم البعض، ضمن إمكانياتهم التي أنهكتها سنين الأزمة، ولكنهم لم يبخلوا مع ذلك في محاولة مساعدة المتضررين، سواء بالمال أو بالتبرعات أو بالعمل على الأرض بشكل مباشر.
على المستوى الحكومي، كانت الاستجابة ضمن مستوى العمل الحكومي منذ سنوات، أي كانت شديدة السوء وشديدة البطء، وفي بعض الأحيان وخاصة بما يتعلق في توزيع المساعدات وفي حالات عديدة، كان الناس ليفضلوا ألا تكون هنالك «استجابة حكومية»..
وإذا نظرنا محلياً إلى كافة المناطق السورية المتضررة، فإنّ حجم الدمار من جهة، ومدى سوء الاستجابة من القوى المسيطرة، تجعل من المقارنات أمراً لا قيمة له، على الأقل من وجهة النظر الإنسانية والوطنية السورية... ولكن بالتأكيد للمقارنات قيمة من وجهة نظر الاستثمار السياسي للقوى المتشددة السورية.
خرجت أصوات من مختلف مناطق السيطرة، تناشد وتندد بأن الاستجابة للكارثة في مناطقها تحديداً، لا تتناسب مع حجم الكارثة، وأن هناك تسييساً للمساعدات الإنسانية. كما أن بعض الأطراف الدولية- وبينها الأمم المتحدة أيضاً- صرّحت أن الأمور الإنسانية يجب عدم تسييسها. وتحمّست الكثير من الجهات والمنظمات السورية العاملة في الشأن الإنساني، وكذلك ناشدت بفصل الملف الإنساني عن السياسي، ولا شك أنّ بعض من يطرحون فصل الإنساني عن السياسي يطرحونه بمعنى إيجابي وبحسن نيّة، ولكن بما يتعلق بالكارثة الراهنة نتيجة الزلزال، وإذا نحينا أية فرضيات تقول: إنّ هذا الزلزال من تصنيع بشري، تبقى أمامنا على الأقل ثلاثة أمور تعمّق كارثة الزلزال وتزيدها بؤساً، وهي بلا أي جدال من صنع البشر، وهي نتاج صراع سياسي داخلي وإقليمي ودولي. هذه الأمور هي:
حين يضرب الزلزال بلداً هتّكته الحرب عبر عشر سنوات، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، بما يعنيه ذلك من الضرر الذي أحاق بأسس الأبنية كنتاج للقتال والقصف والتفجيرات، وبما يعنيه من تسيد الفساد في مختلف القطاعات بما فيها العقارات، وبما يعنيه من فقد الناس لأية مدّخرات، وهشاشة قدرتهم على تحمل حتى مرض عادي من أمراض الشتاء... وإلخ وإلخ. حين يضرب الزلزال بلداً بهذه الحالة، فإنّ آثاره بكل تأكيد ستكون أكثر عمقاً وأكثر مأساوية.
حين يضرب الزلزال بلداً يسود فيه الفساد منذ عقود، وتسود فيه الليبرالية المتوحشة التي لا ترى في البلاد وأهلها سوى أداة لإنتاج الأرباح لتصديرها نحو الخارج، فإنّ كل أسس التعامل مع كوارث كبرى ستكون هشة وستكون ضعيفة، وسيلعب الفساد دوره في امتصاص دم الناس حتى عبر المساعدات، وستلعب المحسوبيات دورها في توزيع المساعدات وفي سرقتها وإلخ.
حين يضرب الزلزال بلداً يفرض عليه الغرب «المتحضر» وعلى رأسه أمريكا، عقوبات متوحشة وحصاراً إجرامياً، يسهم في حرمان حتى سيارات الإسعاف من الوقود اللازم لعملها، فإنّ آثار الكارثة ستكون بالضرورة أشد وقعاً وأشد عنفاً.
هذه العوامل الثلاثة كلها بشرية وكلها سياسية، ولا يمكن الحديث عن تعامل حقيقي مع الكارثة دون التعامل معها... القضية الأكثر إلحاحاً اليوم هي: الاستجابة الإنسانية لتداعيات الزلزال، ولكن علينا أن نتذكر أنّ الجانب الإنساني في الملف السوري كان قائماً قبل الزلزال، وما زال قائماً بعده وبقوة أكبر، وكل حديث سابق عن ضرورة التعامل مع الإنساني بمعزلٍ تام ٍعن السياسي لم يؤدِ إلى حل، لا هذا ولا ذاك...

الجانب السياسي للملف الإنساني

إذا حاولنا أن نفكر بالأزمات الإنسانية الأكبر في العالم الآن، أو حتى عبر التاريخ، يمكن ربط معظمها- إن لم يكن كلها- بأحداث سياسية، أو ذات طابع سياسي، في بعض الأحيان مروراً بتداعيات اجتماعية اقتصادية أو عسكرية. بكلام آخر، نادراً ما نجد أزمات إنسانية ليست لها جذور سياسية.
بشكل عام، الجانب الإنساني من الأزمة السورية ليس استثناءً. وعدد كبير من المقالات في قاسيون سلطت الضوء على هذا الأمر، ووضّحت الرابط السياسي مع كافة تجليات الأزمة الإنسانية في سورية خلال السنوات العشر الماضية، بما في ذلك كل ما هو مرتبط بملف النازحين واللاجئين، وكل المعاناة التي باتت جزءاً من حيواتهم اليومية، وأيضاً المشاكل المتعلقة بالصحة والتعليم والأمن الغذائي... إلخ.
الآن، هناك من يريد أن يميّز الأزمة الإنسانية الآنية الناتجة عن الزلزال على أنها لم تكن نتيجة فعل بشري، بل هي نتيجة لظاهرة طبيعية. ولكن ما يجب أن ننظر إليه تحديداً في هذه الحالة، ليس أن الزلزال نتجت عنه أزمة إنسانية، فهذا أمر متوقع لأية كارثة طبيعية، ولكن ما يجب أن ننظر إليه هو حجم الأزمة الإنسانية التي كشفها الزلزال. بكلام آخر، علينا أن ننظر إلى ما إذا كان ممكناً أن يكون حجم الأزمة الإنسانية التي نتجت عن الزلزال أصغر أو أقل انتشاراً، من حيث الأضرار البشرية والمادية؟
الجواب هو «نعم». على سبيل المثال، يمكن القول: إن السياسات التي عملت وفقها الحكومات المتعاقبة في سورية، بما في ذلك السياسات الليبرالية الوحشية، والفساد المستشري، الذي أطلق العنان لكثير من تجار الحرب والناهبين الذي يعيثون فساداً في البلاد اليوم، كان لكل ذلك تأثير مباشر على مدى كارثية الزلزال، ومنها مثلاً: الفساد الذي سمح لمقاولين ومتعهدين ببناء مبانٍ دون الالتزام بحد أدنى من المعايير المطلوبة للبناء، انهارت خلال دقائق من حصول الزلزال.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى القدرة على الاستجابة لتداعيات الزلزال اقتصادياً، الأمر الذي هو بحد ذاته أزمة إنسانية بحق الشعب السوري، هذا أيضاً مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسات، سواء الدولية أو المحلية. ما نقصده هنا، هو العقوبات والحصار الخانق المفروض على سورية على المستوى الدولي، وعلى المستوى المحلي، السياسات التي لم تكتف بعدم محاولة إيجاد حلول لإنعاش الاقتصاد الوطني ضمن المستطاع، لتخفيف وطأة العقوبات على الشعب، بل تبنّت سياسات تصب تماماً في زيادة الضغط على الشعب وتفقيره وتفقير البلد، الأمر الذي غطته قاسيون باستفاضة بما في ذلك وضع مقترحات واقعية يمكن العمل وفقها، والتي تم تجاهلها كلها، وهذا التجاهل بحد ذاته هو قرار سياسي.

1110-20

هل يتم «تسييس» الاستجابة للكارثة الحالية؟

كما أسلفنا أعلاه، فإن بعض الجهات الدولية والسورية نددت بـ «تسييس» الملف الإنساني فيما يتعلق بالاستجابة لتداعيات الزلزال، وما هو غريب– على الأقل ظاهرياً، لمن لم يرَ بعد اصطفاف المتشددين في ضفة واحدة بغض النظر عن المفردات والشعارات– هو أن المنددين من السوريين هم من كافة الأطراف السورية، بما في ذلك كافة السلطات المسيطرة في المناطق السورية المختلفة.
إذا نظرنا إلى الجهات الدولية التي ناشدت بعدم تسييس إيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق السورية المختلفة التي تضررت نتيجة الزلزال، نجدها أنها هي نفسها التي عملت على مدى أكثر من عقد لتحديد من يصله، وماذا.. وفق أهوائهم ومصالحهم، وهي الجهات ذاتها التي فرضت العقوبات على سورية بشكل متزايد وأكثر خنقاً للشعب السوري منذ 2011 على الأقل. وكانت قاسيون قد كرّست العديد من المقالات حول موضوع استخدام هذه الجهات الدولية– التي هي بطبيعة الحال الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة– للعقوبات وطريقة التعامل مع الملف الإنساني، ضمن أهداف سياسية محددة، وبالأخص ضد تهيئة الظروف المناسبة للوصول إلى حل سياسي شامل والتطبيق الكامل للقرار 2254. لذلك، من المنطقي استنتاج أنها في مناشدتها لعدم «تسييس» الملف الإنساني اليوم، لا يمكن أن تكون قد قررت فجأة أن تتخلى عن أهدافها السياسية في الملف السوري، ما يعني أنها هي التي تبذل جهوداً كبيرة لتسييس الملف الإنساني، فيما يتعلق بالزلزا،ل لتضمن بقاء الملف السوري حيث يمكنها الاستمرار بالعمل بالاتجاه ذاته، أي نحو عدم الوصول إلى حل سياسي شامل.
أما فيما يتعلق بالأطراف السورية، فقد ناشد وندد وصرّح كل طرف حول موضوع تسييس الملف الإنساني حسب ما يناسب خطابه وشعاراته ويخدم مصالحه الضيقة. ما هو أكثر وضوحاً ضمن هذه المناشدات أنها تصب في معظمها في الجهود التي بذلتها هذه الأطراف خلال السنوات العشر الماضية، أو على الأقل المتشددين ضمن هذه الأطراف، لضمان استمرار حالة تقسيم الأمر الواقع، بل تعميقه، فيما يخدم مصالح القوى الناهبة وتجار الحرب المتواجدة على امتداد الجغرافية السورية، وفي كافة مناطق السيطرة المختلفة.

الحل السياسي والأزمات الإنسانية

ينبغي أحياناً التذكير، بأنّ الأزمة الإنسانية للسوريين قائمة ومستمرة وعميقة وليس الزلزال سوى أحد تعبيراتها. ربما الفرق أنّ الزلزال يسمح للجميع بالبكاء وبالتباكي والتفجع دون توظيف سياسي واضح ومباشر. ولكن في الواقع فإنّ السوريين يعيشون يومياً أزمات الجوع والظلمة والبرد والتجريف من بلادهم، والقمع من مختلف السلطات المسيطرة في المناطق السورية المختلفة...
هذه الأزمات ستبقى وتستمر وتتعمق ما دام الوضع السياسي القائم مستمراً، وليس من مخرج منه سوى عبر الحل السياسي الشامل على أساس القرار 2254... وحتى بما يخص العقوبات وتأثيرها، فإنّ أولئك الذين يقولون: إنّ المشكلة كل المشكلة.. هي العقوبات يكذبون؛ لا شك أن العقوبات الغربية إجرامية وظالمة بحق الشعب السوري، وينبغي الاستمرار بالمطالبة برفعها، ولكنّ رفعها وحده لن يحل الأزمة، وربما لن يغير الكثير في واقع حياة المنهوبين، لأنّ السلطات المستحكمة في كل مناطق النفوذ السورية قادرة على ابتلاع أية إيجابيات في الثقب الأسود للفساد الكبير، ولن يفيض منه حتى قطرة واحدة لعموم المنهوبين... الحل السياسي وفقاً للقرار 2254، والتغيير الحقيقي الجذري، هو المدخل الوحيد الممكن لمعالجة الأزمات الإنسانية المتراكمة...

 

(النسخة الإنكليزية)

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1110
آخر تعديل على الأربعاء, 22 شباط/فبراير 2023 14:46