قوارب الموت
خلال سنوات الأزمة، شهدت سورية ازدياداً هائلاً في أعداد السوريين الفارين من البلاد بسبب الأوضاع الأمنية بادئ الأمر، ثم بسبب الأوضاع المعيشية بالدرجة الأولى، والتي تعود جذورها إلى سياسات ما قبل الأزمة والتي تفاقمت خلال سنوات الأزمة لأسباب خارجية وداخلية، إضافة إلى عوامل مرتبطة بشكل مباشر بالأزمة بما في ذلك ما هو مرتبط بالعمليات العسكرية والإرهاب وممارسات العنف. وبدأ السوريون باللجوء إلى كافة الوسائل المتاحة للهروب خارج البلاد، بما في ذلك ركوب البحار للوصول إلى ما يعتبرونه بر الأمان، ومعه بات الموت غرقاً في البحر أحد مصائر الكثير من السوريين، وهذا ما حصل يوم الخميس الماضي، 22 أيلول، عندما غرق قبالة ساحل طرطوس قارب انطلق من ساحل لبنان الشمالي، من المفترض ألا يحمل أكثر من 50 شخصاً، وكان يحمل ما يزيد عن 150 شخص معظمهم من السوريين، وبدأت عملية سحب جثث الضحايا وإنقاذ بعض الناجين؛ وحتى الآن تجاوز عدد الضحايا التسعين، والعشرات ما زالوا في عداد المفقودين، مع عدد قليل من الناجين.
قصص الركاب
«بعد إبحار القارب بساعتين، حدث عطل في المحرك، كان يتعطل قليلاً ثم يعمل، الأمر الذي أثار خوف بعض الركاب فطلبوا من سائق القارب العودة إلى لبنان، إلا أنه رفض وطمأنهم بأن الأمور ستكون على ما يرام. بعد مضي أربع ساعات على الإبحار من شواطئ لبنان، توقف المحرك عن العمل بالكامل، وبات القارب في عرض البحر تتلاعب به الأمواج العالية والرياح الشديدة، وبعد وقت قصير جاء زورق وأخذ سائق القارب وترك الركاب يواجهون مصيراً مجهولاً، ما أثار الذعر بين الركاب الذين كان نصفهم على سطح القارب والآخر في الداخل. يرجح من خبرته الطويلة في البحر أن تكون وجهة القارب كما قال بعض الناجين هي قبرص لأن مكان غرقه كان على بعد 15 كم قبالة شاطئ طرطوس، وهذه الطريق باتجاه قبرص. الذعر الشديد وسوء الأحوال الجوية، جعل معظم الركاب ينكمشون على أنفسهم عند طرف واحد للقارب، وهنا وقعت الكارثة بعدما انقلب القارب بلمح البصر. بقايا القارب الذي غرق قد دفعتها الأمواج والرياح الشديدة باتجاه شاطئ مدينة طرطوس، مبيناً أنه شبيه بالقوارب الموجودة في جزيرة أرواد، وهي مصممة لحمولات صغيرة ولا تستطيع حمل أكثر من 50-60 شخص».
أم أحد الضحايا تتكلم من أمام مشفى الباسل في طرطوس: «راح حتى يدرس ويجيب مصاري... راح ليعيشنا مرتاحين ويبعتلنا مصاري... راح كرمالنا... أقنعته يضل وما يسافر وقلتله أخواتك شايفين منام مو منيح... راح وسافر ومات».
قال أحد الناجين من داخل المشفى: «طفى معنا الزورق ٣ مرات... اجت موجة كبيرة وقلبته... كان في أطفال وعائلات ودفعنا 6000 دولار على الشخص الواحد... الحق علينا ما كان لازم نخاطر بحالنا... هاد خطأنا والزورق كان رايح على إيطاليا وفيه 160 شخص وما بيتحمل كل هالعدد».
في مقابلة مصورة مع أحد الناجين من اللبنانيين والذي كان في المشفى في طرطوس، قال إنه كان على الأقل 30 طفلاً على متن القارب وكلهم قضوا غرقاً في البحر.
وفق أحد المواقع «أحد الناجين من حادثة الغرق وعلى باب سيارة الإسعاف يصرخ: دخيلك يا الله أنا طالعت ولادي معي لأني ما بطيق ضل من دونهم سنتين لبين ما لميت شملهم يا الله كنت خدني معهم».
وفق بعض المواقع، كرم أفندي، 22 عام، وحيد لأهله من اللاذقية وهو من المفقودين حتى الآن من الذين كانوا على متن المركب الذي غرق. والده ووالدته منذ ليلة أمس ينتظرونه أمام مشفى طرطوس. وحسب بعض المواقع الأخرى هو بين مجموعة من الشباب الذين تم احتجازهم من قبل الدرك اللبناني وهم على قيد الحياة، ولكن تتفاوت القصص حول من يتم نشر أسمائهم حول ما إذا فعلاً نجوا من الغرق.
بعض الضحايا:
محمد سمو، وهو طالب سنة ثالثة في كلية الصيدلة في جامعة تشرين. وبين الضحايا كان أيضاً خمسة أشخاص آخرين من ذات العائلة بينهم والده أحمد سمو ومحمد سمو والسيدة هلا سمو وأولادها الأربعة.
ورد على إحدى الصفحات: «كلية الصيدلة في جامعة تشرين تنعي الطالبين أحمد صبح ومحمد سمو الذين غادرا الحياة اليوم بقارب الموت تاركين الغصة والألم في قلوب أحبائهما».
سامي كيال من اللاذقية، وفق أحد المواقع «ذهب لإكمال دراسته»
رغد حكيم (تولد 1998، خريجة هندسة اتصالات بجامعة تشرين) وخطيبها عبد الله جرجور (تولد 1997، خريج هندسة اتصالات).
كتب أحد أقارب رغد: «رحلت الشابة المهندسة رغد حكيم أخت زوجة إبني نادر. ورحل زوجها عبد الله معها بحثاً عن حياة أفضل».
كتبت أخت رغد: «الله يرحمك يا عبد يا صهري الغالي، الله يرحمك يا اختي يا روحي، الله يرحمكم يا حبيباتي، كان ما بدكن تبعدوا عن بعض وتضلو سنين حتى تلتقوا... كان بدكن تبقوا سوا ع طول، كسرتونا والله، رح نشتقلكم اد الدنيا كلها... نشتاق لضحكتكم الحلوة».
حتى يوم أمس السبت، كان عبد الله مفقوداً، ثم تم التعرف على جثته وكتب أحد أقاربه: «حرف الراء الذي تم إيجاده على اليد في إحدى جثامين بانياس كانت حرف رغد زوجته وكانت اليد هي يد المهندس عبد الله جرجور... لم يريدا الانتظار للم الشمل، فقررا الزواج والسفر سوية».
وفق تغريدة على تويتر «وفاة الشاب عمار الطه وزوجته وأطفاله الثلاثة من أبناء قرية شنان في جبل الزاوية بريف إدلب غرقاً في البحر أثناء رحلة اللجوء قبالة ساحل مدينة طرطوس». ووفق أحد أقاربه: «الظروف المعيشية في لبنان دفعتهم إلى ركوب قارب الموت ووجهتهم إيطاليا».
في تغريدة أخرى «هذه الصورة من بقايا حطام الزوق الغارق على شواطئ طرطوس السورية تم التعرف على هوية الضحية هي الشابة «سوزان حسين تتلو»، محافظة اللاذقية الصليبة من ضحايا مركب الموت». ووفق أحد أقاربها «كلّ طرق لمّ الشمل بينها وبين زوجها فشلت، لذا لم يكن أمامها سوى سلوك طريق الموت هذا بهدف الوصول إليه. لكنّ المطاف انتهى بها غارقة في البحر، على بعد كيلومترات قليلة من مدينتها اللاذقية الساحلية».
حسب أحد المواقع تم العثور بالقرب من أحد شواطئ طرطوس على مجلد يحتوي على أوراق أحد المفقودين، وهو شاب اسمه مصطفى شاويش، ويبدو أن المجلد كان يحتوي على جواز سفره السوري وكشف علامات.
وفق أحد المواقع قال والد أحد ضحايا قارب طرطوس: «يجيبولنا بواخر يحملونا... غير هيك أنا عندي 5 ولاد كل يوم باعت واحد لو بدن يرجعوا جثث... نحن هون ما عنا حقوق».
إحدى الناجيات تقول: «صرنا نقله رجاع وما بدنا مصاري بس رجعنا على الشط».
أحد الناجين يقول: «أخدوا منا من 5700 حتى 6500 دولار للراكب وصار يطفي معو الموتور وطلعت موجة وقلبت اللانش».
نحن البلادُ وقد اغتربت... نحن أيقونة «النصر»، وأيقونة الخراب
قوارب الموت خلال السنوات
هذه الحادثة لم تكن الأولى من نوعها، حيث لا يوجد أحد لا يذكر صورة جثة الطفل آلان الكردي على أحد شواطئ المتوسط، والتي هزت العالم قبل ما يقارب السبع سنوات، في شهر أيلول من عام 2015، حيث شهد ذلك العام موجة هجرة كبيرة للسوريين، ترافقت مع حوادث كثيرة شبيهة بتلك التي حصلت قبل أيام.
في حزيران الماضي، نشرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تقريراً إحصائياً حول اللاجئين والمهاجرين الذين عبروا البحر المتوسط للوصول إلى أوروبا. في مادة حول التقرير، تقول المفوضية إنه «في حين أن الأعداد المبلغ عنها للاجئين والمهاجرين الذين يعبرون البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا أقل مما كانت عليه في عام 2015، إلا أن هذه الرحلات باتت أكثر فتكاً من ذي قبل». ووفق التقرير وصلت أعداد من حاولوا عبور البحر المتوسط «ذروتها في عام 2015، عندما عبر أكثر من مليون لاجئ ومهاجر البحر الأبيض المتوسط نحو أوروبا».
وفق التقرير، منذ عام 2015 «شهدت أعداد أولئك الذين يقومون بهذه الرحلات اتجاهاً تنازلياً، حتى قبل جائحة فيروس كورونا. في عام 2021، تم تسجيل 123,300 حالة عبور فردي، وقبل ذلك 95,800 في عام 2020، و123,700 في عام 2019 و141,500 في عام 2018» وأضاف التقرير أنه «خلال الربع الأول من عام 2022، عبر أكثر من 18,000 لاجئ ومهاجر البحر الأبيض المتوسط للوصول إلى أوروبا. وإجمالاً شرع 2.3 مليون شخص في نفس الرحلة في السنوات الثماني الماضية».
الخط البياني التالي يُظهر أعداد من قضوا أو ما زالوا مفقودين من الأشخاص الذين عبروا أو حاولوا عبور البحر المتوسط إلى أوروبا. (المصدر: المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين).
انتحار جماعي؟
دع التنظير جانباً، الإنسان عامةً يموت مرةً واحدة، المنتحر هو ذلك الذي يموت مرتين؛ وإذا كان ما ينبغي أنْ يُدرس في موت الإنسان عامةً هو موته الأول والأخير، فإنّ ما ينبغي دراسته في موت المنتحر هو ميتته الأولى لا الثانية.
سعة القارب وظروف الجو ودور المهرب ووزن الحمولة واتجاه الرياح وارتفاع الموج وتعطل المحرك، كلّها تفاصيل الميتة الثانية، وكلّها نتائج ثانوية للميتة الأولى.
لم يصل ركاب القارب لميتتهم الثانية إلا بعد أن ماتوا ميتة أولى.
مرة أخرى: لم يصل ركاب القارب لميتتهم الثانية إلا بعد أن ماتوا ميتة أولى؛ في الأولى ماتوا بصمت، وفي الثانية ماتوا ميتةً صاخبةً وملحمية. لا يجوز للضجيج أن يحجب الموت الأول؛ فالضجيج أعلن موت 90 روحاً أو أكثر، والصمت لم يعلن عن موتاه بعد، وهم بالآلاف، بعشرات الآلاف، بمئات الآلاف، وبالملايين.
شعبٌ بأكمله يموت بصمت، ومأثرة ضجيج القارب الغارق هي إلقاء الضوء على الموت الصامت المتواصل.
لم يكن أيٌّ من ركاب القارب انتحارياً؛ لم يريدوا الموت، بل أرادوا الهرب منه، ومع ذلك فقد انتحروا بغير إرادةٍ منهم.
القارب الغارق هو التمثيل الرمزي لا ليأسٍ فردي، بل ليأسٍ واسعٍ وممتد؛ حين يقدم المرء على مغامرة يائسة وخطرة مقتنعاً بأنّ أحد احتمالاتها الموت، فلأنه قد جربه قبلها.
عن أيّ شيءٍ نتحدث؟ عن بلدٍ يتم تدمير الصناعة والزراعة فيها بشكلٍ ممنهج؟ عن بلدٍ يتم تدمير روحها وثقافتها وأخلاقها؟ عن بلدٍ يستمر المتنفذون فيها بتطبيق سياسات التجويع والتخريب عبر ما يسمونه «الليبرالية»، وعبر «رفع الدعم»؟ يقولون إنهم يحاربون الغرب بينما يقدّسون دولاره ويستمرون باعتماده عملةً احتياطية في البنوك وفي جيوبهم... يقولون إنهم يعملون لمصلحة الناس بينما يعملون لمصلحة قلةٍ محتكرة فاسدة، ويستخدمون عقوبات الغرب لزيادة أرباحهم، ولتعميق النهب... هل هنالك بعد من يصدق أنهم يعادون الغرب فعلاً؟
الانتحار الجماعي فعل يأسْ، ولكنه أيضاً فعل ثورة؛ أو قل هو مؤشرٌ أنها آتية... كلّ ما مرّ حتى الآن هو صراع الناهبين فيما بينهم، وبدماء المنهوبين، والثورة أمامنا وليست وراءنا... ومن ينتحر في البحر يمكنه أن ينتحر على البر أيضاً...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1089