بحرٌ للنشيد المرّ...

بحرٌ للنشيد المرّ...

ليست كارثةً طبيعيةً ولا مأساةً عابرةً، مأساةُ قاربنا الغارق؛ هي صورةٌ ملحمية مكثّفة لبلادٍ بأكملها... تغرقْ. بشبابها وشيبانها، بأطفالها وأحلامها... تغرقْ.

لم يسمع بنا أحدٌ قبل أن نعتلي ذروة ملحمتنا، قبل أنْ نصعد لموتنا الموعود... ولم يكن في نيّتنا أن يسمع بنا أحدٌ... تعبنا من الضجيج، تعبنا من بلادٍ انتصاراتها هزائم، من بلادٍ لا يكف رسميّوها عن صبّ انتصاراتهم المتعجرفة فوق رؤوسنا، بينما نرزح في الوحل والظلمة.
هل كثيرٌ علينا أن نعيش في بلادٍ نأمنُ فيها على أنفسنا وعلى أحلامٍ صغيرةٍ نسقيها لحمنا لا لتكبر، بل لتبقى حية؟ هل كثيرٌ علينا أن نأمن على أنفسنا من الجوع والبرد والمرض؟ ربما كثيرٌ، وكثيرٌ جداً، في بلادٍ يمسك بتلابيبها صنفٌ خاصٌ من اللصوص، أكثر أصناف اللصوص وقاحةً؛ فهؤلاء لا يسرقون تعبنا وأحلامنا فحسب، بل ويحتكرون «المثل» و«القيم» أيضاً... هم ذاتهم الأكثر إجراماً، وهم ذاتهم الأعلى مقاماً وشرفاً! والجريمة أداة الشرف وحاميه... بلادٌ تكالب عليها أعداؤها، وأشبعوها ضرباً، ولكنّ أكثر أعدائها شراسةً هم أولئك الذين يزهون بـ«انتصاراتها»، والذين يدّعون محاربة أعدائها بينما يحاربوننا نحنْ.
لم يسمع بنا أحدٌ من قبل، ولم يكن في نيتنا أن يسمع بنا أحد؛ بعضنا كان يبحث عن حياةٍ جديدة، وبعضنا كان يبحث عن حياةٍ لأهله الذين تركهم وراءه، كان يبحث عن بلادٍ يستطيع أن يعمل فيها ويرسل لأهله ما يبقيهم على قيد الحياة.
لم يسمع بنا أحدٌ من قبل، ولم يكن في نيتنا أن يسمع بنا أحد؛ كنا نلملم حطامنا صامتين صابرين، ونعدّ العدة لحياةٍ ساكنةٍ مشتهاة، لا لموتٍ مسرحي... ولو أنّ البحر كان رئيفاً بنا لما سمعتم عنّا شيئاً... كانَ «المنتصرون» سيواصلون «انتصاراتهم» وسيواصلون ضجيجهم المتعجرف وتعاليهم على جراحٍ لم تصبهم بل أصابتنا نحنْ. وكنا سنمضي إلى حياةٍ أخرى، أو قل كنا سنمضي من موتٍ إلى حياة... ولكن كان ما كان، ومضينا من موتٍ صامتٍ إلى موتٍ معلنْ.

نحن البلادُ وقد اغتربت... نحن أيقونة «النصر»، وأيقونة الخراب

لم نفكر، حتى في أسوأ كوابيسنا، وفي أعلى درجات تصوفنا وزهدنا، أنْ نكون قرابين لكم، أنتم يا من تتحدثون عنّا الآن، وتنشرون صورنا وقصصنا الصغيرة... لسنا زُهادً ولا ملائكة، نحن مثلكم تماماً، سوى أنّ غضبنا المتراكم، تعبنا المتراكم، قد تحوّل مع الأيام إلى يأس... واليأس أخطر ما يمكن أن تُبنى عليه مغامرة... وإذاً، فهذه مغامرتنا اليائسة، وهذا منتهاها...
لسنا زهاداً، ولذا لم نفكر أن نكون قرابين لكم أو لأي شيءٍ آخر، ولكنْ وقد متنا، ولم تعد أحلامنا لنا، فلا مانع لدينا أن نورّثكم إياها... كشأن من يكتب في وصيّته أنه يتبرع بأعضائه لمن يحتاجها بعد موته؛ لنا شيمٌ وأخلاقٌ هي لنا، وهي بنت بلادٍ وشعبٍ كنا فيها وكنا منه، ولن نبخل بالتبرع بأحلامنا لكم إنْ كنتم ترون أنها يمكن أن تنفعكم في شيء... ولكن ربما لدينا ما هو أهم لنقوله:
نحن البلادُ وقد اغتربت، نحن أفضل تمثيلٍ للانتصارات التي يدبّجها الرسميون والزعماء. نحن أيقونة النصر، وأيقونة الخراب. لا بأس بأنْ تنثروا وروداً على البحر الذي ابتلع جثاميننا، فلا ذنب له في قتلنا. ولكن اقتلعوا الأشواك جيداً، اقتلعوا أشواككم وأشواكنا، فهي المذنبة، هي من دفعتنا للهرب من موتٍ صامتٍ إلى موتٍ معلنْ... الشوك المرّ غريمنا وغريمكم... هذي البلاد أخذت قسطها من درس التخريب، وتحتاج استراحة مقاتل... المقاتل منهكٌ والحرب لم تنته، المقاتل منهكٌ والتخريب لم ينته.
هذي جثاميننا الرمزية دونكم، هي بيانٌ سياسي كما ينبغي للبيان السياسي أنْ يكون؛ فالبيان إيضاحٌ وصدقٌ وكشفٌ للمستور، فها جثاميننا بيانٌ باسم البلاد بأسرها، بيانٌ لما هي عليه، ولما ستكون عليه إنْ بقي الخراب متسيداً فيها.
انثروا ورودكم أنّى شئتم، ولكن اقتلعوا الأشواك... وأعضاؤنا وأحلامنا، نتبرع بها لكم لتلقوها في وجه قتلتنا... قولوا لهم: كفاكم كذباً وتعالياً، عليكم بالرضوخ لحكمة التاريخ ولحكمة الملحمة قبل أنْ تفرّ كل الورود من حديقتنا، قبل أنْ تغدو البلاد بأسرها قفراً يملأه العوسج.
لن نرسل رسالتين متطابقتين لأحد عن موتنا، موتنا رسالة واحدة فقط: فإما أن يتم تجريف اللصوص مع مقاعدهم وأكاذيبهم، كل اللصوص وبكل اصطفافاتهم ومواقفهم، وإما أنْ تُلقى البلاد وأهلها في البحر...

لن نرسل رسالتين متطابقتين لأحد عن موتنا، موتنا رسالة واحدة فقط: فإما أن يتم تجريف اللصوص مع مقاعدهم وأكاذيبهم، كل اللصوص وبكل اصطفافاتهم ومواقفهم، وإما أنْ تُلقى البلاد وأهلها في البحر...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1089