تمديد مهمة الجولاني... الـ «Show» ما يزال مستمراً
منذ أواسط العام 2019 وحتى الآن، لا يمر شهران متواصلان دون أن يطلّ علينا الجولاني بتصريح أو تحرك جديد. وبينما يرى كثيرون أن هذه هي طريقته كي لا يحرمنا من «أنسه» وكي يذكر الجميع بأنه ما يزال موجوداً وذا أهمية، وهذا أحد التفسيرات بالتأكيد، ولكن ما هو أهم أنه هذه الإطلالات باتت أيضاً إحدى الأدوات التي يستخدمها أولئك الذين عملوا بلا كلل، ولسنوات متواصلة، في محاولة لتبييض النصرة... وإلى ذلك، فإنّ كل ظهور جديد يحمل معه معانيه الخاصة ضمن الإطار الزمني الذي يحدث فيه... ومنها ظهوره الأخير...
ظهر الجولاني قبل حوالي الأسبوع، وحاز على مساحة لا بأس بها في الإعلام عندما شنت جماعته، النصرة، هجوماً على مجموعات أخرى هي «جند الشام» و«جند الله»، والتي يتم توصيفها بالمجموعات «الجهادية».
جند الشام هو فصيل بقيادة مسلم الشيشاني، وهو جهادي شيشاني قاتل ضد الروس في الشيشان واستمر في قتالهم في سورية خلال السنوات الماضية. وهذا، بحسب البعض، يجعله هو وجماعته إشكالية كبيرة بالنسبة للروس ومن أهم أعدائها من بين الجماعات الإرهابية المتواجدة في شمال غرب سورية.
فيما يتعلق بالمجموعة المعروفة باسم جند الله، فإنّ لديها تاريخاً فيه بعض التعقيد؛ ولكن باختصار فهي وفق بعض المصادر كانت امتداداً لجماعة «جهادية» أذربيجانية. وقبل بضع سنوات كانت المجموعة قد بايعت داعش، ولكن افترقت عنها بعد معركة دامية. وكانت إحدى الاتهامات التي وجهتها النصرة ضد «جند الله» أنها تؤوي فلولاً من القاعدة ومن حراس الدين المرتبطة أيضاً بالقاعدة.
وفق عدد من وسائل الإعلام التي نقلت الأخبار، فإن الإشكالات بين النصرة وهذه المجموعات مستمرة منذ شهور، وصولاً في نهاية المطاف إلى الاشتباكات التي حصلت الأسبوع الماضي والتي أدت إلى ضربة قاضية، رغم أن مدى صحة كل ذلك غير واضحة تماماً.
شيء مماثل كان قد حصل سابقاً عندما قام الجولاني وجماعته بملاحقة حراس الدين، في عملية امتدت على مدى عامين تقريباً. آنذاك، استخدم أحد مراكز الأبحاث التي تأخذ من الولايات المتحدة مقراً لها تلك المعركة بوصفها «حجةً» واضحة ومبرراً لـ»سورنة» الجولاني وتقديمه كشريك محتمل فيما يتعلق بالملف السوري، وصولاً إلى التلميح بإمكانية إشراكه في العملية السياسية، وبالتالي أن يكون جزءاً من مستقبل سورية.
الحلقة الأخيرة من مسلسل الهجمات التي تشنها «النصرة» بين الآونة والأخرى، هي عمل إضافي يمكن إدراجه في القائمة المعنونة بـ»محاربة المقاتلين الإرهابيين الأجانب» ضمن قائمة الأفعال التي تثبت «تغيير سلوك» الجولاني والنصرة؛ حيث إن تبييض النصرة من خلال مجرد تغيير ملابس قائدها وتقصير لحيته ليس كافياً ويتطلب تدعيماً بـ«أدلة ملموسة» يستند إليه معلموه الغربيون في مرافعتهم في الدفاع عنه، ولا توجد طريقة أفضل للقيام بذلك من تصويره كشريك في الحرب العالمية ضد الإرهاب؛ وطبعاً «الإرهاب» كما يعرّفه الغرب وبكلمات جيمس جيفري نفسه، هو ذلك الذي «يشكل تهديداً دولياً»، (و»دولياً» تعني الغرب، فالمجموعات التي تهدد الصين مثلاً أو روسيا أو التي تعيث فساداً في أي من بلدان آسيا، ليست بالضرورة إرهابية، ما دامت لا تهدد مصالح الغرب... بل وعلى العكس فإنها حين تهدد مصالح خصوم الغرب فإنها يمكن أن تدخل تحت تصنيفات براقة كما يثبت التاريخ القريب، تصنيفات على غرار «مقاتلي الحرية» مثلاًّ!).
من الجدير بالذكر أن الأيام القليلة الماضية شهدت بعض الاحتجاجات في عدد من النقاط في الشمال الغربي، منددة بالجولاني والنصرة وبهذه المعركة الأخيرة التي خاضوها، حيث تم اتهام النصرة باستهداف مجموعات فقط لأنها لا تخضع لجبهة النصرة وعلى الرغم من أن هذه المجموعات «مرابطة على الخطوط الأمامية في وجه النظام وروسيا» وفقاً لما تدعيه تلك المجموعات. حتى إن البعض ذهب بعيداً في خيالاته زاعماً أنّ الجولاني بذلك يحاول استرضاء الروس وتملقهم من خلال هذه المعارك الأخيرة.
بناءً على ما سبق ومن خلال متابعة تطور جبهة النصرة ومعها تطور مقاربة الأطراف المختلفة لها سواء بشكل مباشر من خلال التصريحات أو بشكل غير مباشر من خلال وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث، وضمن المشهد الدولي والإقليمي الحالي، خاصة فيما يتعلق بسورية، يمكننا ملاحظة ما يلي على الأقل:
- لا تزال هناك بعض الأطراف الدولية التي تتساهل ضمنياً مع إطالة أمد وجود النصرة لاستغلالها كورقة مساومة لتحقيق مكاسب سياسية في مرحلة ما، وفي المقابل تواصل النصرة السيطرة على هذه المنطقة المحدودة في سورية و»تحكمها» بالطريقة التي تريدها بينما تغض هذه الأطراف الدولية الطرف عن معظم ممارساتها، وتكتفي ببعض التصريحات المنددة من فترة إلى أخرى.
- في الوقت ذاته، تقوم جبهة النصرة بدورها في إطالة أمد وجودها من خلال عدم القضاء على جميع الجماعات الإرهابية الأخرى المتواجدة في مناطق سيطرتها والمحاذية لها، ولكن بدلاً من ذلك تقوم بتوزيع هجماتها عليها. وبالتالي، تستخدم النصرة هذا كورقة مساومة في يدها لإطالة أمد وجودها وأيضاً لتحقيق أية مكاسب يمكن أن تجنيها من أولئك الذين يستفيدون من استمرار وجودها.
- يمكن إدراج قدرة النصرة على الاستمرار في تنفيذ مثل هذه العمليات ضمن الجهود الهادفة لتثبيت الارتباط الحصري بين تركيا والنصرة، والذي يسعى إلى إبعاد الولايات المتحدة من واجهة المشهد... وهو الأمر الذي يعقد تنفيذ الاتفاقات المعقودة بين روسيا وتركيا بما يخص الشمال الغربي، دون أن يتحمل الغرب مسؤولية مباشرة عن ذلك، وبما يساعد على اختلاق توترات مستمرة بين قطبين أساسيين في أستانا هما روسيا وتركيا. وهذا لا ينفي بطبيعة الحال الدور التركي المباشر في العلاقة مع النصرة، ولكنه يضعه في إطاره الأوسع والأكثر واقعية.
- في العرض الجديد أو الـ«Show» الذي تقدمه النصرة، هناك عنصر إضافي جديد، هو محاولة تصوير النصرة على أنها تستهدف عناصر أو جهات معادية لروسيا؛ وبمعنى آخر، فإنّ القائمين على غسيل النصرة يسعون إلى خلط الأوراق لعل وعسى يسمح ذلك بتأخير أو بتلطيف الموقف الروسي الذي يصنف النصرة إرهابية.
بناءً على ما سبق، يمكننا أوّلياً، استنتاج ما يلي:
- بطبيعة الحال، فإنّ بين الأهداف المباشرة للجولاني ومشغليه، أن تتسع الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها، وأن يرفع بذلك من «وزنه التفاوضي المفترض».
- يضاف إلى ذلك أنّ إنهاء التشكيلات الصغيرة المصنفة أيضاً إرهابية، والتي كانت مهمتها خلال الفترة الماضية هي أن تكون «وجه القباحة» الذي يحمل على عاتقه الأعمال القذرة التي تقوم بها النصرة، سيعني (إضافة إلى دعابة محاربة الجولاني للإرهاب)، أنّ التنظيم الوحيد الذي سيستمر في المنطقة بعد العمليات هو النصرة ذاته، والذي لا يمكن رفعه من قائمة الإرهاب بوجود تنظيمات أخرى إرهابية قريبة منه ومتعايشة معه.
- الهدف الأمريكي على المدى الطويل فيما يتعلق بالنصرة هو الاستمرار بالعمل على إبقائها حتى بعد خروج الولايات المتحدة من سورية كإحدى الألغام العديدة التي تزرعها واشنطن في المنطقة لتفجيرها لاحقاً عند الحاجة.
- على المدى القصير أو المتوسط، تلعب النصرة بشكل متزايد الدور المطلوب منها كواحدة من الجهات الفاعلة التي تضمن بقاء الظروف على الأرض غير مستقرة بما يكفي لإفساد الجهود الجادة لخلق البيئة المناسبة للعملية السياسية للمضي قدماً بالسرعة المطلوبة.
- هناك محاولات متزايدة ومتسارعة من قبل الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، لاستخدام النصرة لتقويض العلاقة الروسية التركية وتوسيع أية انقسامات قائمة بينهما، ضمن الجهود المستمرة لاستهداف التقارب الروسي التركي وصيغة أستانا بشكل عام، وعرقلة الوصول إلى حل سياسي حقيقي وشامل في سورية.
- لا يزال «الحوار الاستراتيجي» بين روسيا والولايات المتحدة مستمراً فيما يتعلق بسورية والمنطقة بشكل عام، وهذا الحوار لا يزال يتأرجح في مرحلة لا يُتوقع فيها بعد أن يسفر عن نتائج نهائية؛ حيث تحاول الولايات المتحدة لعب كل الأوراق التي تمتلكها ويمكنها اللعب بها بالتوازي مع استمرار الحوار الذي قد تبدو الرغبة الأمريكية منه هي أن يحقق لا حواراً إستراتيجياً جدياً بل «استغفالاً تكتيكياً»، يجري على هامشه تسريع الخطا على الأرض ضمن عملية «تغيير سلوك النظام»، وباستخدام أنظمة عربية مطبعة، لعل وعسى يؤدي ذلك إلى إدماج الصهيوني في المنطقة اقتصادياً وسياسياً ليشكل استمراراً للوجود الأمريكي، وللتخريب الأمريكي...
- ورغم درجة التعقيد والتشابك الهائلة التي تبدو عليها الأوضاع بما يخص النصرة وسورية والمنطقة عموماً، إلا أنّ حدود قدرة الفعل الأمريكي والصهيوني، باتت معلقة بشكل أساسي على حجم التناقضات بين الأطراف الفاعلة ضمن منطقتنا، وليس على القوة الذاتية للغرب المتراجعة أصلاً... وليس من الصعب التنبؤ بأنّ الأطراف المقابلة للأمريكي والصهيوني، جميعها، تدرك ذلك، وتعمل على أساسه... وأستانا نفسها هي أحد أهم أمثلة ذلك، ولكنها بالتأكيد ليست كافية وحدها إذا لم يتضافر معها توافق سوري سوري، وليست كافية بمستوى تطورها الحالي إذا لم ترفعه نحو التوافق على البدء بالحل السياسي الفعلي عبر 2254، سواء رضي الغرب بذلك أم لم يرض.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1042