في معاني ومقدمات الانفتاح «العرمريكي»
كفاح سعيد كفاح سعيد

في معاني ومقدمات الانفتاح «العرمريكي»

يجري الحديث منذ فترة عن انفتاحٍ عربي على السلطة السورية، ويتضح من نوعية القوى التي «تنفتح» طبيعة هذا الانفتاح؛ فالتموضع السياسي لهذه الدول، ودرجة تبعيتها للأمريكي، وأدوارها الإقليمية تاريخياً، ودورها خلال سنوات الأزمة السورية، تسمح وببساطة لأي مراقب بالاستنتاج بأن ما يجري، لا يمكن أن يكون إلا بأمر عمليات أمريكي... وبعبارة أدق، فإنّ الانفتاح العربي المزعوم هو تفويض أمريكي وتوكيل بالانفتاح... ضمن هذه الرؤية يمكن للمرء أن يحاول فهم وقراءة فحوى هذا الانفتاح، وغاياته...

(1)

تعرف الإدارة الأمريكية تماماً مستوى الهشاشة ودرجة التفسخ التي وصل إليها الوضع في سورية، وذلك باعتبارها مساهماً أساسياً في الوصول إلى تلك الحالة... (لا يمكن أن ينسى العاملون في الحقل السياسي السوري، وضمن أروقة جنيف بشكل خاص، درجة الغبطة التي عبّر عنها جويل ريبورن النائب السابق لجيمس جيفري، وهو ممسك بموبايله ويعرض أمام محادثيه من السوريين التدهور الذي تعانيه العملة السورية، وبوصفه انتصاراً للسياسات الأمريكية).
تدرك الإدارة الأمريكية كذلك، طبيعة السلطة، وبنيتها النفسية– الذهنية، وسلوكها المحتمل في مثل هذه الظروف. واستناداً إلى ذلك، فإنّ أغلب الظن هو أن الأمريكي يعمل على «بيع» الانفتاح للسلطة بالمفرق، وعبر سياسة «خطوة- خطوة» غير معلنة تماماً وغير مخفية تماماً، و(هي سياسة أخرى غير تلك التي عبّر عنها غير مرة المبعوث الدولي لسورية غير بدرسون، وإنْ كانت تحمل الاسم نفسه)...
في الـ«خطوة- خطوة» الأمريكية، فإنّ كل خطوة باتجاه الانفتاح يجب أن تقابلها خطوات من السلطة باتجاه تحقيق الطلبات- الأوامر الأمريكية، والتي لن تأتي بالضرورة بشكل مباشر من الأمريكي، ولكنها يمكن أن تمر عبر البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، أو عبر الدول «المنفتحة».

(2)

منحت الجغرافيا السياسية لسورية فرصة ثابتة عبر التاريخ، بأن تكون ذات دور إقليمي ودولي، رغم تواضع قواها الاقتصادية والديموغرافية قياساً إلى الكثير من دول الإقليم، حتى بات هذا الدور بمثابة وظيفة للدولة السورية كبنية جغرافية سياسية– ثقافية تاريخية.
صادرت السلطة في سورية، وعبر عقود، الإرادة السياسية الجمعية والمؤسسات المعبرة عنها، بما في ذلك جهاز الدولة نفسه. أما سياساتها في سنوات تفجر الأزمة، وبالتضافر مع التخريب الغربي متعدد الأدوات، فقد حوّلت كل البلاد إلى بنية مأزومة تماماً، ومنتهَكة السيادة بشكل غير مسبوق، ودفعتها إلى مأزق تاريخي، حين ربطت مصير بلد بملايينه الأربعة والعشرين، وبنيته التاريخية، باستمرار ثابت لبنية فقدت صلاحيتها التاريخية.

(3)

اللحظة السياسية الراهنة بالنسبة لسورية، هي إما: لحظة الافتراق بين البنية والوظيفة، وذلك من خلال الانزلاق إلى إحداث انزياحٍ تكتوني في تموضع سورية التاريخي في إطار التكيف مع الانفتاح «العرمريكي»، أي القيام بتحويل وظيفة الدولة السورية كمعطى موضوعي تاريخي، إلى مجرد أداة للحفاظ على البنية. وإما، فإننا أمام لحظة استعادة الدور والوظيفة وتفعيل هذا الدور وتجذيره، وتجاوز المأزق الراهن، ليس عبر التنازل للأمريكي، بل عبر تقديم التنازلات المستحقة للشعب السوري، وتحديداً الانخراط الفعلي في الحل السياسي على أساس القرار 2254، وتمكين الشعب السوري من تقرير مصيره بنفسه، وبناء نظام سياسي جديد.
تجدر الإشارة هنا، بأن كل السلطات التي حاولت أن ترهن الدور الوظيفي لسورية عبر تاريخ سورية الحديث، بدءاً من الملك فيصل، وانقلابات ما بعد الاستقلال، لم تستطع البقاء طويلاً.
السلطة الحالية، ومنذ عقود، كانت تستند على هذه الخاصية، وتحاول دائماً موازنة الأوزان الدولية والإقليمية، واستطاعت من خلال ذلك ملء هوامش واسعة للحركة ليست هي صانعها الأساسي؛ ونقصد بذلك أنّ هذه الهوامش كانت هي نفسها معطىً موضوعياً أنتجه التوازن الدولي السابق من جهة، والتموضع الجغرافي الفريد لسورية من جهة ثانية، وإرث نضالات النصف الأول من القرن العشرين بشكل خاص للشعب السوري، وبخاصة حركة التحرر الوطني في أطوارها الأولى والثورة السورية الكبرى أحد أبرز تجلياتها.
ورغم أنّ التوازن الدولي القديم الذي ساد طوال النصف الثاني من القرن الماضي قد انتهى وانزاح بشكل كبير، إلا أنه لم يختفِ كلياً بتأثيراته وتداعياته المختلفة، وهذا ما يبقى بعض هوامش للمناورة الواضح تماماً أنها باتت ليست ضيقة فحسب، بل ومحدودة الصلاحية زمنياً...
الظرف الراهن، وجملة التناقضات داخل سورية، وكذا التي تحيط بها، وخصائص اللحظة السياسية الراهنة التي أتينا على ذكرها، قد أنهت إلى حد بعيد إمكانية استمرار المناورات بين الهوامش.
يتمظهر تضيق الهوامش هذا، بانتقال بعضٍ مما وراء الكواليس إلى العلن. هذا ما بدأ يصبح أكثر وضوحاً في المواقف الروسية وحتى الإيرانية، من طريقة سير عمل اللجنة الدستورية مثلاً، وكذلك مما جرى خلال الأشهر الماضية في درعا وريفها...

(4)

يمكن فهم حقيقة هذا الانفتاح وهدفه، باعتباره محاولة استباقية أمريكية للالتفاف على أي دور لاحق لسورية بعد الحل السياسي الحقيقي القادم حكماً؛ أي هي محاولة لـ«تشليح» سورية إحدى أهم مصادر قوتها. وفي هذا السياق، يمكن فهم طبيعة الحل الذي تريده واشنطن للأزمة السورية أيضاً؛ وهو تثبيت تقسيم الأمر الواقع القائم، أو نموذج الدولة الهشة، من خلال الإمساك بالنخب المهيمنة في مناطق النفوذ الثلاث، وإجراء (مصالحة ما) بينها.

(5)

يفرض هذا الشكل من الانفتاح: (التدرج- البيع بالمفرق، والانفتاح بالوكالة) التحسب لأية مفاجآت قد تظهر في ظل الصراع الدولي والإقليمي المحتدم في سورية وحولها، قد تضطر واشنطن إلى الانقلاب على عملية الانفتاح في أية لحظة، فيصبح حلفاؤها الصغار وجه القباحة، في حال لم يكتب النجاح لخططها...
بقي أن نشير إلى أن مشروع صفقة الانفتاح «العرمريكي» هي بمثابة صفعة جديدة لكل من راهن على الأمريكي من شخصيات وقوى وأحزاب في إحداث أي تغيير ديمقراطي حقيقي في سورية، وأيضاً هو درس إضافي لمن راهن على قدرة البنية القائمة بطبيعة انحيازها الطبقي لقلة اقتصادية متنفذة وفاسدة، في إنجاز أية مهمة وطنية ذات طابع تاريخي، في ظل الواقع التاريخي الجديد الذي تشكل منذ انهيار عالم الثنائية القطبية في القرن الماضي، وتعزز مع انطلاق الحركة الاحتجاجية في آذار 2011.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1042
آخر تعديل على الإثنين, 01 تشرين2/نوفمبر 2021 00:12