واشنطن... والطريق المسدود نحو الشرق
سعد خطار سعد خطار

واشنطن... والطريق المسدود نحو الشرق

عبر سلسلة من الأوامر التنفيذية المباشرة، أوضحت إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، نواياها بشأن تغيير بعض سياسات إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، وهذا لا يشمل السياسات الداخلية فحسب، بل أيضاً العلاقات الخارجية، بما في ذلك طبيعة العلاقات المستقبلية مع الخصوم الإستراتيجيين للولايات المتحدة.

خلال عهد ترامب، كانت الصين المحور الرئيس للحرب التجارية العالمية في واشنطن. وفي حين انتقد «الديمقراطيون» هذه الحرب، إلّا أن خلافهم كان فقط على تكتيكات الحرب، وليس على الحرب نفسها، إذ إنهم متفقون من حيث المبدأ على أن الولايات المتحدة تحتاج إلى مواجهة الصين، لذا فمن المنطقي أن نرى إدارة بايدن تعود بـ«إستراتيجية جديدة» لمحاولة عرقلة صعود الصين، غير أن الإستراتيجية هذه ليست «جديدة» في الواقع، بل إنها مجرد عودة إلى سياسة الرئيس الأسبق باراك أوباما، والتي حملت في ذلك الحين اسم «محور آسيا»، وهي الفكرة التي تنطوي على تحوّل كبير في الطريقة التي كانت الولايات المتحدة في السابق تؤمن نفوذها من خلالها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. حيث شملت تعزيز الانتشار العسكري والبحري في هذه المنطقة، وافتراض مواجهة الصين عسكرياً، وكان الأمر يتعلق بمواجهة «تهديد الصين» بما يضمن الحفاظ على التفوق الأمريكي عالمياً.

«محور آسيا» مجدداً؟

العودة إلى «محور آسيا» أو إنشاء نسخة جديدة منه يتناسب أيضاً مع الخطاب السياسي لجو بايدن حول إحياء مكانة الولايات المتحدة الأمريكية المفقودة في النظام السياسي العالمي. غير أن النسخة الجديدة تختلف عن السابقة بالوزن الذي تعطيه لاستخدام الوسائل الاقتصادية لمواجهة الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهو ما نراه حاضراً بشكلٍ أكبر في النسخة الجديدة.

وإنشاء هذه النسخة الجديدة بدا واضحاً من خلال الخيارات التي اتخذها جو بايدن فيما يتعلق بمساعده ومستشاريه. إذ نرى على رأس القائمة كورت كامبل كمستشار عن المحيطين الهندي والهادئ، وجيك سوليفان كمستشار للأمن القومي، ولهذه الثنائية تاريخ من العمل معاً و«اختراع» أفكار حول طرق ووسائل مواجهة الصين.

في مقالهما المنشور عام 2019 في مجلة «فورين أفيرز» والذي تشاركا في تأليفه، شدد كامبل وسوليفان بأنه «في حين أن إدارة ترامب كانت محقة في تغيير وجهة نظر أمريكا تجاه الصين باعتبارها منافساً إستراتيجياً، فإن قرارها بخوض المعارك التجارية مع حلفاء الولايات المتحدة بدلاً من حشدهم إلى موقف مشترك تجاه الصين هو مضيعة للنفوذ الأمريكي». وأكدا أنه بدلاً من الدخول مع الصين في «حرب تجارية» مكلفة، ستكون المصالح الأمريكية محققة بشكل أفضل بكثير لو اتبعت إدارة ترامب سياسة الترويج لأفكار التنمية في دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ على أساس أنواع الاستثمارات عالية الجودة، وعالية المعايير التي تخدم التقدم على نحو أفضل. أي: إن دعم الاستثمارات ليس لأنها معادية للصين، بل لأنها مساعدة على النمو، والاستدامة، وداعمة للحرية، سيكون أكثر فعالية على المدى الطويل. وسيتطلب مسار العمل هذا ضخ تمويل متعدد الأطراف من الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها، بحيث يمكن أن يمنح هذه الدول بدائل حقيقية عن التعاون مع الصين.

وهذا سيتطلب حشد عدد من الحلفاء ضد الصين. وستحتاج واشنطن، كما يقول المؤلفان، إلى تعميق كل تلك العلاقات، والعمل على تشبيكها معاً، والتركيز على المواجهة متعددة الأطراف ضد الصين، وليس المواجهة الثنائية التي لم تعد واشنطن قادرة أن تخوضها وحيدة، ولذلك، «ينبغي على الولايات المتحدة أن تنظر إلى التحالفات عموماً باعتبارها أصولاً قابلة للاستثمار عسكرياً واقتصادياً لاحقاً...». وبناءً على ذلك، فإن إدارة بايدن، التي وظفت كامبل وسوليفان، قد تجهد غالباً إلى إعادة بناء التحالفات الآسيوية، لإنتاج تحالف مناهض أكثر فعالية في مواجهة الصين.

هل ستفيد النسخة الثانية؟

رغم أن إدارة بايدن توحي أنها مستعدة لإعادة إشعال التوترات مع الصين، فإن النسخة الثانية من «محور آسيا» تأتي في وقتٍ شهد فيه وزن الصين في المنطقة تحولاً هائلاً، وهي اليوم أكثر قبولاً لدى دول جنوب شرق آسيا أضعاف ما كانت عليه في عهد أوباما، إذ إن العلاقات الاقتصادية المتنامية بين الصين ورابطة دول جنوب شرق آسيا، التي بدت واضحة في الاتفاقيات التجارية التي تم توقيعها مؤخراً، تضع التحالفات الأمريكية التقليدية تحت الكثير من المصاعب الموضوعية التي ترتكز على فكرة التراجع الحقيقي في وزن الولايات المتحدة، بغض النظر عن طبيعة الإدارة التي تحكمها، حيث إن معظم حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، بما في ذلك تايلاند والفلبين، أعادوا تنشيط علاقاتهم مع الصين في أعقاب الخروج الأمريكي من المنطقة في ظل إدارة ترامب، ونتيجة لذلك، تحوَّل عددٌ متزايد من حلفاء الولايات المتحدة بالفعل، إما نحو «الحياد» بين بكين وواشنطن، أو الالتفاف بشكلٍ كبير نحو الصين كشريك اقتصادي وسياسي، وهذا الالتفاف هو أيضاً نتيجة للقناعة التي باتت سائدة على نطاق واسع في رابطة أمم جنوب شرق آسيا، بأن الصين في وضعٍ ممتاز على الصُّعد السياسية والاقتصادية والعسكرية خلال السنوات العشرين المقبلة على أقل تقدير. ولذلك فإن تكوين صداقات مع الصين أمر منطقي بالنسبة لبلدان منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والانخراط عسكرياً مع الولايات المتحدة في مواجهة الصين هو مجرد توريط لا تقدم عليه أية قوة عاقلة في العالم.

وبهذا المعنى، فإن الحقائق الموضوعية ليست مناسبة للتدخل العسكري والاقتصادي الذي يريدان كامبل وسوليفان أن يقوم به جو بايدن، وهو ما ينبئ بفشل ذريع للنسخة الجديدة من «محور آسيا» التي تعتمد في جوهرها على توازنات لم تعد موجودة في عالم اليوم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1002