السؤال هو «متى» وليس «هل»... الولايات المتحدة تقف على أعتاب «حرب أهلية» همجية..
ريم عيسى ريم عيسى

السؤال هو «متى» وليس «هل»... الولايات المتحدة تقف على أعتاب «حرب أهلية» همجية..

قراءة المشهد في الولايات المتحدة، في سياق ما يمكن توقعه من الرأسمالية في إطار أزمتها، وكذلك في سياق الأحداث الجارية على مستوى البنية الاجتماعية الاقتصادية، تكشف أنّ الاتجاه الواضح هو نحو تعمق الفوضى وتصاعد الصراع... والمسألة لم تعد حول «هل» سيحصل ذلك، بل «متى» سيحصل، وبأية درجة من القسوة...

في مقالات سابقة، استعرضنا مؤشرات عديدة على توسع عزلة الولايات المتحدة ضمن المسرح العالمي، الأمر الذي يجد تعبيراته في العلاقات الخارجية لواشنطن، بل وداخلها أيضاً. هذه العزلة هي في آن معاً، سببٌ من أسباب التحول الهائل الجاري على الساحة العالمية، ولكنها بالدرجة الأولى: مجرد عَرَض من أعراض هذا التحول.

على المستوى الدولي

تتجلى عزلة واشنطن بأشكال عديدة؛ بما في ذلك الابتعاد التدريجي لـ«أصدقائها» (الغرب) عنها، وكذلك في سلوك حكومات «تابعة» تاريخياً تجري الإطاحة بها من شعوبها، أو أنها تحاول التكيف، الذي باتت معادلته الأساسية: (كلما ابتعدت عن الولايات المتحدة بشكل أسرع، كلما زادت فرص نجاتك)... الأنظمة التي تحاول التكيف شرعت في تحويل «أسواقها» نحو نمط مختلف من العلاقات الاقتصادية الدولية مع «شركاء آخرين»، وبدأ الدولار في الانهيار كعملة عالمية من خلال استبداله بعملات أخرى، بما في ذلك العملات الإلكترونية... هذه العزلة المتزايدة بدأت بالانعكاس فعلاً على الشؤون الداخلية للولايات المتحدة، وخاصة في الشأن الاقتصادي الذي سنناقشه بمزيد من التفصيل أدناه.

يبدو أنّ القانون الثابت في المسألة هو: أنّ كلّ تقليص للدور الدولي للولايات المتحدة، سوف تجري محاولة تعويضه عن طريق إجراءات أكثر قسوة في الداخل؛ حيث البيئة غير مستقرة، وعدم الاستقرار يتناسب طرداً مع تقليص الدور الخارجي؛ أي: إنه كلما زادت عزلة الولايات المتحدة دولياً، كلما زاد عدم استقرارها داخلياً. ويرجع ذلك بشكل أساس إلى السياسة الأمريكية التي جعلت سيطرتها الداخلية و«الاستقرار» فيها على مدى عقود، مرتبطين بدورها الدولي، وبالتحديد بحجم النهب الدولي الذي تمارسه.

1

داخل الولايات المتحدة

داخلياً، تنعكس العزلة في التحرك نحو دولة تبدو أكثر فأكثر كدولة بوليسية صافية. في مقال حول فوبيا الشيوعية في الولايات المتحدة... أبعاد أخرى، تطرق زميلي سعد صائب إلى سعي الولايات المتحدة الاضطراري (إضافة إلى دول غربية أخرى)، وفي سياق الحرب الباردة والتنافس مع النموذج السوفييتي، إلى تأسيس نظامٍ، كان للدولة دور كبير فيه ضمن الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

بدأ ذلك بالتغير بعد الستينات؛ حيث بدأ الاتحاد السوفييتي يعاني من التراجع، وبدأت الدولة في الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، في التخلي ببطء عن دورها في السوق ودورها الاجتماعي لمصلحة الشركات العابرة للقارات والمتعددة القوميات، بحجة «تعزيز حرية السوق». ووصل هذا التقليص إلى دور الدولة الاجتماعي إلى حدوده القصوى مع المرحلة النيوليبرالية مطلع الثمانينات.

أصبحت الدولة أقل اهتماماً بمجمل السكان ورفاههم الاجتماعي والاقتصادي وتنميتهم، وأصبح دور الدولة الرأسمالية حامياً للشركات والأموال الضخمة بشكل علني ووقح (بعد أن كان كذلك دائماً، ولكن بشكل ملطّف)؛ الأمر الذي أسهم في تسارع تمركز الثروة. هذا بدوره، أعاد جهاز الدولة مرة أخرى إلى الواجهة، بوصفها حامياً لثروة القلة بمختلف الوسائل، القانونية والعسكرية والأمنية... أي إننا يمكن أن نرصد مما بعد الكساد العظيم 1929، ثلاثة أنماط أساسية متعاقبة للدولة في الغرب، جميعها تخدم- وفقاً لكل مرحلة تاريخية- النخبة الرأسمالية: (أولاً: الدولة التي تتدخل في السوق لمعالجة أزماته وتلعب دوراً اجتماعياً. ثانياً: الدولة المنسحبة من المشهد، ولكن المشتغلة من خلف الكواليس لمصلحة الشركات الكبرى، وثالثاً: الدولة البوليسية العلنية المتدخلة قانونياً وأمنياً وعسكرياً لمصلحة الشركات الكبرى).

هذا التحول في دور الدولة في الغرب عموماً، وفي الولايات المتحدة خصوصاً، جعل أغلبية الأمريكيين يدركون بشكل متزايد أن «الحلم الأمريكي»، لم يعد هدفاً بعيد المنال فحسب، بل وأصبح أسطورة منذ عام 2008 على الأقل.

جرى ذلك جنباً إلى جنب مع العزلة الأمريكية، التي تمثلت بالدرجة الأولى في تناقص قدرة الولايات المتحدة على استغلال سكان البلدان الأخرى، الاستغلال الذي كان وسيلتها لتوفير مستوى معيشي معين باذخ الاستهلاك بشكل غير مسبوق تاريخياً.

نظراً لتراجع المستوى المعيشي لعدد أكبر من الأمريكيين على مدار العقد الماضي (مع ذروة متفجرة في عام 2008)، واستمرار الانخفاض أكثر خلال السنوات القليلة الماضية، وخلال أزمة COVID-19، بدأ الأمريكيون في البحث عن إجابات. ترافق ذلك مع صعود التيارات العنصرية، وتيارات «سيادة الأبيض»، وترافق ذلك مع زيادة وضوح وحشية الشرطة، لا سيما في المناطق الفقيرة، والتي «تصادف» أن تكون في الغالب من السود، أو من أصحاب الأصول الأمريكية اللاتينية، والمكسيكية خاصة، ولكن بشكل خاص من الأمريكيين السود، مما أدى إلى ظهور حركة BLM (حياة السود مهمة).

هذه ليست سوى بعض العوامل الرئيسة التي دفعت الأمريكيين إلى التشكيك لا في «الإدارة الأمريكية» القائمة فحسب، بل في النظام الرأسمالي ككل. وبدأ عدد أكبر من الأمريكيين في انتقاد واسع للسياسات والإجراءات الأمريكية في جميع أنحاء العالم. بدأ العصيان المدني بأشكال مختلفة (وإن كان متواضعاً حتى الآن مقارنة ببعض مما جرى في تاريخ الولايات المتحدة نفسه)، والأصوات التي تتحدى النظام تتصاعد وتطالب بالتفسيرات والمساءلة والتغيير.

ليس بشكل غير متوقع، لجأت حكومة الولايات المتحدة وخلفها «النخبة» إلى زيادة استخدام «القبضة الحديدية» وإن لم يكن ذلك بشكل صارخ، ولكن في بعض الحالات، تم فرض حظر تجول من الطراز العسكري، وتمت تعبئة الحرس الوطني في عدة مدن أمريكية، وحتى المركبات المدرعة التي كانت تسير في المدن- كان هذا الأبرز في مينيابوليس، المدينة التي قتل رجال الشرطة فيها جورج فلويد.

هذه أشياء لم تعتد الغالبية العظمى من الأمريكيين- خلال ثلاثة أجيال متتالية- على رؤيتها. اجتاحت المظاهرات أجزاء كبيرة من الولايات المتحدة، وتشكلت حتى بعض الميليشيات في بعض المدن، وهو الأمر الذي كان ينبغي أن يقلق الحكومة الأمريكية بالفعل.

هذه «القبضة الحديدية» للدولة هي واحدة من أخطر سمات الولايات المتحدة اليوم، وقد تناولتها مؤخراً منظمات حقوق الإنسان، بما في ذلك حتى منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها في 30 أيلول 2020 حول الوحشية المنهجية للشرطة في الولايات المتحدة. كما تناولت منظمة العفو الدولية هذه القضية مؤخراً في تقرير صدر في 23 تشرين الأول 2020 بعنوان خسارة السلام: إخفاقات الشرطة الأمريكية في حماية المتظاهرين من العنف.

2

إلى ماذا يمكن أن يؤدي كل هذا؟

كل المؤشرات المبنية على التجارب السابقة والتاريخية، ناهيك عن تزايد وحشية الشرطة والعنف في الولايات المتحدة بين الأمريكيين أنفسهم، وبين الدولة والشعب، كل هذا يشير إلى حرب داخلية وشيكة. السؤال الآن لم يعد «هل سيحدث هذا؟» ولكن بدلاً من ذلك «متى سيحدث؟». بناءً على قراءتنا للمشهد، نتوقع أن يكون هذا صراعاً وحشياً، نظراً لعوامل عديدة، منها ما يلي:

أولاً: سيتدهور الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة تصاعدياً مع فقدان الدولار لمزيد من قوته العالمية، وفقدان الولايات المتحدة ككل مركزها الاقتصادي العالمي أمام القوى الصاعدة، مثل: الصين؛ وهذا سيكون العامل الأكثر تأثيراً في تأجيج الصراع الداخلي. يجب أيضاً مراعاة ما يلي فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة:

- تراجع الناتج الإجمالي المحلي الأمريكي بنسبة 31.4%، أي: إنه انكمش بحدود الثلث في الربع الثاني من العام الجاري، ليسجل بذلك انكماشاً إضافياً انهيارياً بعد الانكماش الذي جرى في الربع الأول... ناهيك عن أنّ «أرقام نمو الناتج» طوال سنوات عديدة ماضية، كانت أقل من نسبة نمو السكان.

- تزايد الدَّين القومي للولايات المتحدة بمعدلات فلكية، ليس كل ثانية، بل كل نانوثانية: (في 1980 كانت نسبة الدَّين الفيدرالي الأمريكي إلى الناتج المحلي الإجمالي 34.68٪، واليوم هذه النسبة هي 137٪)

- زيادة تمركز الثروة بيد قلة متناقصة (بين عامي 1989 و2018، زاد الـ 1٪ الأغنى من إجمالي ثرواتهم بمقدار 21 تريليون دولار أمريكي، وانخفضت قيمة ثروة االـ 50٪ الأدنى بمقدار 900 مليار دولار أمريكي).

- إنفاق المستهلك أو نفقات الاستهلاك الشخصي (PCE) في انخفاض، ومن أيار 2020 إلى آب 2020 فقط، انخفض من 8.7٪ إلى 1٪ (وفقاً لوزارة التجارة الأمريكية، مكتب التحليل الاقتصادي).

وهكذا، على جميع الجبهات الاقتصادية، هناك تراجع، سيكون هو العامل الأول في تأجيج الغضب بين السكان، ودفعهم نحو الاضطرابات والتعبئة.

3

ثانياً: هناك بالفعل فوضى وعنف، كرد على العنف المتزايد من قبل أجهزة الدولة، ولكن أيضاً فإنّ الثقافة السائدة في الولايات المتحدة، ربما تكون الأكثر قابلية في العالم بأسره للتحول السريع نحو العنف، وهو أمر يمكن ملاحظته (من بين أمور كثيرة أخرى) حتى في أنواع الأفلام والعروض التي تجذب جمهوراً أكبر في الولايات المتحدة. أحد مظاهر العنف، هي حوادث إطلاق النار في المدارس، والذي استناداً إلى تقرير صادر عن CNN في نيسان 2020 (يتحدث عن الحوادث التي جرت تغطيتها في الإعلام فقط، في المرحلة الابتدائية وحتى المرحلة الثانوية، وليس كل الحوادث) يُظهر أنه منذ عام 1990 حتى تاريخ التقرير، كانت هناك 59 حادثة من هذا النوع (خلال 30 عاماً) وقع في كل منها ضحية واحدة على الأقل. بينما كان إجمالي الحوادث من هذا النوع في الفترة من 1927-1989 (62 سنة) هو 20 حادثاً (أي: تضاعفت نسبة هذه الحوادث 6 مرات خلال العقود الثلاثة الأخيرة).

هناك مؤشر آخر يجب أخذه في الاعتبار فيما يتعلق بالعنف، أو احتمال حدوثه، وهو عدد الأسلحة النارية التي يحملها المدنيون؛ في هذا الصدد (استناداً إلى دراسة استقصائية أجريت عام 2017 حول أعداد الأسلحة النارية التي يمتلكها المدنيون)، تعتبر الولايات المتحدة حقاً رائدة على مستوى العالم برصيد 120.5 سلاحاً لكل مئة مدني، (أي إنّ الكل عملياً لديه سلاح ناري)، وللمفارقة، فالدولة التالية بعد الولايات المتحدة في هذا المجال هي اليمن، وبفارق كبير: 50 سلاحاً نارياً لكل 100 مدني!

وبالتالي، «إذا»... أو بالأحرى، «عندما» يندلع النزاع، فهناك بيئة خصبة جداً لتصعيد العنف وبسرعة كبيرة... وهذا الحجم من العنف، هو النتاج الطبيعي لتوحش فئة الـ 1% الناهبة، لأنّ الثقافة السائدة في أي مجتمع، وكما تعلمنا الماركسية، هي ثقافة الطبقة السائدة...

ثالثاً: يتزايد قمع الدولة في الولايات المتحدة، والذي يتم الكشف عنه أكثر فأكثر من خلال بعض الإجراءات التي تمت مناقشتها أعلاه، وخاصة الطريقة التي تعاملت بها الحكومة مع الاحتجاجات هذا العام، ومن خلال إجراءات، مثل: إحياء الأساس القانوني لاستهداف المواطنين، كما ناقشنا في مقال سابق مع إحياء القوانين المتعلقة بالارتباط بالشيوعية.

ستؤدي هذه العوامل وغيرها إلى تأجيج الصراع الداخلي في الولايات المتحدة، على الرغم من أنه ليس من السهل التنبؤ بموعد اشتعاله بالفعل، ولكن عندما يحدث ذلك، فمن المحتمل أن يكون صراعاً همجياً إلى أقصى الحدود.

4

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
989