بين الربح والصدمة و«التوقف» اللبناني!
كنا في مواد سابقة قد أشرنا إلى مؤشر بنيوي في النمط الثقافي الليبرالي، حَكَم أرضية وملامح التفاعل الإجتماعي مع الأزمة التي يعيشها المجتمع البشري. هذا المؤشّر يستند إلى القاعدة القِيَمِيّة لليبرالية التي أسس لها بنك الأهداف الاجتماعي الذي فرضته ثقافة هذا المجتمع المريض بالفردية والاستهلاك، وفي جوهر هذه القيم: «الربح». والتوسع في هذه الملامح يساعد على فهم الحالة التي تشكّلت وتتشكل لدى القوى الاجتماعية في مرحلة الأزمة، وبالتالي، يساعد على التقاط خط الوعي العام لهذه القوى من أجل الكشف عن الظاهر الخادع في سلوكها.
منطق الربح وحضوره النفسي
إن محرّك الربح في الاقتصاد حَكَم ولا شك البنية القيمية للوعي، وصار هو أيضاً محرك الأهداف التي حَكَمت الوعي الليبرالي وجوهرها. فكانت قاعدة الربح تلك تنفي وتستبعد ضمنياً حالة الخسارة. مع أن جدلية الربح- الخسارة ترتبط موضوعياً بالصراع الاجتماعي، والمرحلة التاريخية لهذا الصراع، الذي يحمل في المجتمع الرأسمالي تهديدات وجودية فعلية كانت مطموسة تحت الرماية النارية المكثفة للسلاح الأيديولوجي الرأسمالي. فكانت القوى الاجتماعية غير محَصَّنة أمام الخسارة كونها لم تتجهز على مستوى خصائص الشخصية وأدوات الوعي للتصدي لحجم الخسارة الوجودية، كما فرضتها الأزمة. لم تكن إذاً غياباً للجاهزية، لهذه الجاهزية النفسية، بل ما كان هو نقيضها المباشر: شخصية ووعي ضعيفان أمام المواجهة. بل حتى يعاديان فكرة المواجهة الاجتماعية، التي هي في حقيقتها صراع سياسي في المجتمع. هذا الصراع الذي عادته القيم الليبرالية، واعتبر هو مصدر الشرور، وهكذا سُلبت الجماهير من سلاحها العملي والمعنوي- النفسي، ولهذا كانت خسائرها أعظم في الميدان.
استبعاد الخسارة والصدمة
هذه الأرضية النفسية الشخصية القيمية شكلت البنية التي كشفت الفرد على الواقع الذي يسقط في كل جوانبه. فالفرد وقف عارياً أمام موجة الانهيار، مسلوباً حتى من التهيئة المسبقة لها، ولهذا كانت مباغِتة، غير متوقعة، وحادة، فأسست لحالة الصدمة التي يعيشها الوعي العام. وأكثر ما يمكن أن نرى ملامح هذه الصدمة في المجتمعات التي حضرت فيها الليبرالية بشكل قوي. ومن مؤشرات ذلك جيش «النفسانيين» الذي برز إلى الواجهة لتحليل المصاعب النفسية التي واجهها الناس بسبب الأزمة، دون أن يتطرق هذا الجيش من النفسانيين الليبراليين لجوهر هذه الصدمة، وكيفية الخروج منها.
لبنان في عين عاصفة الصدمة
إن تتبع مسار الأزمة في العالم لم يعف أي مجتمع. ولكن بعض المجتمعات سارت فيها الأزمة بشكل تراكمي، تعاظم مع الوقت. بينما عاشت مجتمعات أخرى داخل شرنقة وهمية بغض النظر عن الصعوبات التي عاشتها، ومنها: المجتمع اللبناني.
فلبنان لم يكن مستقراً طوال العقود التي تلت اتفاق الطائف، حاملاً معه آلام الحرب الأهلية وندوبها النفسية على الأجيال التي عاشتها، والأجيال التي عاشت هذه الحرب عبر العقل السياسي للنظام اللبناني وأدوات صراعه السياسية ما بعد الطائف عبر قواه السلطوية وخطابه الذي شكّل الحرب، وإحداثياته نقطة الانطلاق للتعاطي مع القوى الشعبية من موقع التحريض والترويج للدفاع عن خيار هذه القوى السياسي. وهذه العقود التي تلت الطائف لم تكن مستقرة لا عسكرياً (الحروب الإسرائيلية في التسعين والألفين و(الـ 2006) ولا أمنياً (الجماعات الإرهابية والمواجهات مع الجيش، والتفجيرات التي تلت اغتيال الحريري الأب) ولا سياسياً من خلال التوتر الدائم في نظام مأزوم غير قادر على التماسك، وكله يقوم على بنية تحتية متعفنة، مما أمن بيئة للتوتر الدائم. ولكن في ذلك كله لم تكن الأزمة الوجودية حاضرة بالشكل الذي حضرت به في طور أزمة المجتمع الأخيرة، بتفاعل كبير مع تربية ووعي ليبراليين في أذهان اللبنانيين، وتغييب للعمل السياسي الصراعي الحقيقي.
فالمجتمع اللبناني على الرغم من عدم الاستقرار البنيوي فيه طوال العقود الماضية، انحكم بخطاب عام يروج لقدرة هذا البلد على «النهوض» من تحت الرماد، المجتمع المتميز «المدلل» من قبل «رعاته» الدوليين، المجتمع الذي تتمتع قواه السياسية السائدة بالـ«الذكاء» و«الدعم» الخارجيين اللازمين... ولكن بالمعنى الاقتصادي- السياسي، لبنان وبسبب ضعف تبلور جهاز الدولة فيه، وبسبب من ضعف ملامح نظام متماسك، حصل تأجيل تاريخي لانفجاره طوال السنوات التي تلت انطلاق «الربيع العربي»، بالمعنى الذي حصل في الدول العربية الأخرى كمواجهة: «شعب- نظام» التي أسست لتفجير مواجهات اجتماعية في ظل غياب تنظيم ومشروع سياسي جذري.
ولكن ضعف جهاز الدولة وتبلور ملامح النظام الواحد الظاهرية، كان بالتحديد سبباً في سرعة الانهيار الحاصل في الشهور الماضية على المستوى المالي والاقتصادي والاجتماعي.
ولهذا فإن ما حصل في دول أخرى خلال سنوات، حصل في لبنان في ظل شهور قليلة. ولهذا فإن الصدمة التي مررنا عليها أعلاه كانت أكثر حدة.
حالة «التوقف»
أسست الصدمة والتعطّل في المتجمع لوضعية يمكن تسميتها «بالتوقف» (Pause). فالذهول الذي تركته الصدمة كان نتيجة سقوط العقل الفردي في الفراغ الوجودي خلال فترة زمنية سريعة جداً، ما جعل الوعي في حالة تعطّل كما لو أنه دخل في شرنقة توقف فيها مسار الزمن وجريانه، وما بقي فقط هو «كل يوم بيومه» بالمعنى الوجودي. يدعمه غياب أي دور لجهاز الدولة على مستوى الحماية الصحية والغذائية والخدمات... ومن ملامح تلك الصدمة التي ما زال أغلب «الثوريين» «يمطقها» هي حالة المكابرة والرفض والعناد التي يعيشها قطاع كبير من الشعب اللبناني، أمام الواقع بما يشبه حالة إنكار ممارسي. ولكنها في جوهرها تعبر عن حالة عجز عميق لدى هذه القوى الشعبية، مدعومة بتجربة انتفاضة «محبطة»، وبغياب واضح لأي أفق نحو الخروج من الأزمة. غياب هذا الأفق مرتبط بأزمة المسار السياسي البديل الذي هو الآخر كان «مصدوماً» بالمعنى التاريخي، أي: ضعف جهوزيته للصراع على السلطة والاكتفاء بدور الاعتراض، مما يعبر أنه كان أيضاً يعاني من عقل «أطلّق» المجتمع، ونفى ضرورة انتقاله السياسي العميق.
بين الانخداع والعقل العلمي
ليست إذا هذه الملامح إلا تعبيراً ظاهرياً «خادعاً» عن عجز الوعي الشعبي على قبول التعطّل الذي أصاب الحياة، وليست إلا تعبيراً عن غياب القناعة بإمكانية الخروج، إنها تعبير عن انتصار منفجر وخاطف لطرف الخسارة على حساب طرف الربح في جدلية: الخسارة- الربح.
والتعامل مع هذه الملامح على أنها صفة أصيلة في المجتمع اللبناني ليست إلا وهماً، ولكن هذا يتطلب بالمقابل رفع دور المشروع الثوري الجذري في الحياة السياسية وعلى مستوى الوعي والخطاب، وإظهار مدى قدرته على السير في أزمة معقدة ضمن الإحداثيات اللبنانية. وهذا ما لم يظهر لحد الآن. وهذا قد يحتاج زمناً محدداً يتلقى تحولات في العالم والإقليم، والأهم: إعادة تأسيس منصة معرفية- سياسية ماركسية تطرح التحول بإحداثياته الشاملة المرتبطة بالأزمة البنيوية للمجتمع الرأسمالي ونمط حياته، هذه المنصة التي لا مفر منها من أجل دفع الحركة إلى الأمام في السنوات القادمة، هذا إذا ما حافظ هذا المجتمع على استمرارية نسبية تسمح بالعمل السياسي نفسه. وإلا فإن مظاهر التطرف السياسي والاجتماعي ستسود.
وهذا مرتبط ليس فقط في الداخل اللبناني وحده، بل بالعالم والإقليم، وذلك نابع من انكشاف لبنان بنيوياً وفوقياً على المستوى السياسي، بالتوازنات التاريخية، وكونه تكثيفاً لهذه التوازنات، وبالتالي، قابل للتأثر بها ضد تطوره كما يمكن أن تكون لصالح تطوره.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 975