«قيصر» وقطبة «إسرائيل» المخفية

«قيصر» وقطبة «إسرائيل» المخفية

منذ أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية ما يسمى بقانون «قيصر» الذي فرض حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية الإجرامية ضد المواطنين السوريين، كثرت الأحاديث والتوقعات حول تبعات هذه الحزمة على سورية، وكذلك أثار القانون تساؤلات عدة، من أهمها: متى، وفي أية شروط، ستقوم الولايات المتحدة برفع هذه العقوبات؟

السؤال هنا لا يطرحه الرافضون لهذه العقوبات فحسب، بل وكذلك بعض المؤيدين بشكلٍ موارب لها، ذلك أن تجربة الولايات المتحدة في موضوع فرض العقوبات على الدول الأخرى في العالم تشي بأن الأمريكي لم يفرض العقوبات يوماً ليرفعها بسهولة، بل غالباً ما تتحول هذه العقوبات إلى ورقة ضغط ومساومة لتحصيل أكبر قدر ممكن من التنازلات. ويمكن العودة في هذا السياق إلى طريقة تعاطي الولايات المتحدة الأمريكية في العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على كلٍّ من إيران وفنزويلا وكوبا وغيرها من الدول، وكيف كانت قائمة الشروط الأمريكية تتبدّل وتتعدل مراراً ربطاً بالتطورات السياسية في العالم.

قيصر و«جيران» سورية

في النص الرسمي لقانون «قيصر»، المنشور على موقع خدمة مكتب النشر التابع للحكومة الأمريكية، هنالك فقرة تحمل اسم «بيان السياسة»، وتحدد هذه الفقرة «هدف» الولايات المتحدة من العقوبات، وتقول حرفياً:

«تقوم سياسة الولايات المتحدة على أنه ينبغي استخدام الوسائل الاقتصادية، الدبلوماسية والقسرية، لإجبار حكومة بشار الأسد على وقف هجماتها القاتلة على الشعب السوري، ودعم الانتقال إلى حكومة في سورية تحترم حكم القانون، وحقوق الإنسان، والتعايش السلمي مع جيرانها».

فيما يخص النقطة المتعلقة بـ«التعايش السلمي مع جيرانها» لا يحتاج عاقل لكثير من الجهد ليستنتج أن المقصود هو كيان العدو الصهيوني، ذلك أنه الوحيد الذي لا تربطه علاقات سلام مع سورية، فعلاقة سورية مع جيرانها (العراق، تركيا، الأردن، لبنان) قد تتوتر تارة وتهدأ أخرى ولاسيما خلال الأزمة السورية، لكنها لم تصل إلى حدود العلاقات العدائية المطلقة، وموضوع التعايش السلمي غير وارد أصلاً لدى الحديث عن أي من هذه الدول لأنه بدهي. فما الذي يريده الأمريكي من إدراج مسألة «التعايش السلمي» مع كيان العدو في نص قانون «قيصر»؟

التحكم بالسلوك المستقبلي لسورية

ما تشي به هذه النقطة هو أن الهدف الأمريكي من فرض العقوبات على المواطنين السوريين لا يرتبط بإجراء تغييرات داخلية في البلاد، بل هو في العمق محاولة للتحكم بالسلوك المستقبلي لسورية، كما هو محاولة يائسة لاستباق تغيّر الواقع السياسي في البلاد، وبهذا المعنى تقول لنا واشنطن: إن رفع العقوبات عن البلاد في المستقبل سيكون مرهوناً بوجود حكم في سورية يطبِّع العلاقات مع الكيان الصهيوني.

وهنا لا نناقش المسألة لنثبت أن الولايات المتحدة تحاول أن تفرض على سورية سياسات محددة بطريقة تخالف القوانين الدولية، فهذا بدهي، وهذا ما كانت تحاول واشنطن القيام به على الدوام، لكن هذا النقاش يهدف إلى تثبيت نقطة أساسية في فهم السلوك الأمريكي اليوم، وهي: أن الولايات المتحدة التي تضطر للانسحاب التدريجي والمتسارع من المنطقة، تحاول بشتى الوسائل أن تترك بين يديها بعض الأوراق التي تسمح لها بتثبيت مشهد محدد من المنطقة بعد انسحابها، حيث إن الركيزة الأساسية للولايات المتحدة في المنطقة بعد الانسحاب هي الكيان الصهيوني، ومجمل السلوك الأمريكي منذ فترة غير قصيرة (صفقة القرن، والاعتراف بـ«سيادة إسرائيل» على الجولان السوري المحتل...إلخ) يؤكد أن واشنطن تحاول تمكين كيان العدو إلى الحد الأقصى الذي يسمح له بأن يلعب هذا الدور.

بالإضافة إلى ذلك، فإن السلاح الذي تشهره الدول الصاعدة اليوم (روسيا والصين تحديداً) فيما يرتبط بصراع دول المنطقة مع الكيان الصهيوني هو العمل على تطبيق قرارات مجلس الأمن التي تم اعتمادها سابقاً في هذا الشأن، وهو ما يسمح لنا بالاستنتاج: أن أحد الأهداف الإضافية لواشنطن من إدراج مثل هذه النقطة في قانون قيصر يتمثل في محاولة عرقلة تطبيق هذه القرارات لاحقاً، وهو إن دلّ على شيء فإنه يدل على مقدار تخوّف الولايات المتحدة من مستوى جدّية القوى الدولية الجديدة الصاعدة في حل قضية الصراع مع الكيان الصهيوني حلاًّ يستند للقوانين الدولية، التي تمّ إهمالها سابقاً بفعل الوزن النوعي السابق للولايات المتحدة، الذي استطاع التحكم إلى حدٍّ بعيد بسلوك المؤسسات الدولية، وهي المؤسسات ذاتها التي يضطر الأمريكي لمغادرة عدد منها بفعل اتضاح تبدّل التوازنات داخلها لمصلحة القوى المناوئة للهيمنة الغربية والأمريكية تحديداً.

بهذا المعنى، فإنّ بين عقوبات «قيصر» و«صفقة القرن» حبلاً سُرياً واحداً، لا ينبع فقط من كونهما قادمين من المصدر الأمريكي نفسه، بل وأكثر من ذلك من كونهما يحملان طابعاً استراتيجياً طويل الأمد كأداتين أساسيتين من وجهة نظر الأمريكي، تخدمان تهيئة الأرضية المناسبة لعملية انسحاب واسع وتاريخي من المنطقة.

واشنطن اليوم ليست واشنطن الأمس

مشكلة السلوك الأمريكي هذا، هي أنه ينتمي في عقليته إلى مرحلة سابقة، إلى مرحلةٍ كانت تستطيع فيها الولايات المتحدة أن تفرض على دول العالم ما تفعل ومتى وكيف. وهنا لا نقول إن وزن الولايات المتحدة الأمريكية قد صار صفراً، لكنه اليوم ليس وزنها السابق ذاته الذي سمح لها بفرض إرادتها عنوة ورغم إرادة الدول. (يقدّم وصول سفن النفط الإيرانية إلى فنزويلا بالرغم من كل التهديدات التي وجهتها واشنطن لطهران مثالاً حياً لمن يريد التمعن).

مع نضوج ظروف التطبيق الفعلي لقرار مجلس الأمن 2254، هذا النضوج الذي لثلاثي أستانا (روسيا، تركيا، إيران) الدور الأساسي فيه، تنفتح أمام السوريين إمكانات تقرير مستقبلهم بأيديهم، وهذا يعني ضمناً أن القرارات السيادية، ولا سيما تلك المتعلقة بالجانب الوطني بما في ذلك استعادة الجولان السوري المحتل، ستكون بأيدي السوريين أنفسهم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
971
آخر تعديل على الأربعاء, 24 حزيران/يونيو 2020 15:07