جورج فلويد... والحراك الشعبي الأمريكي
سعد خطار سعد خطار

جورج فلويد... والحراك الشعبي الأمريكي

يتلقى النظام الرأسمالي الأمريكي ضرباتٍ قاسية تحت وطأة التداعيات الخطيرة لانتشار فيروس كورونا في الدولة الغنية التي لا تملك سوى 5% من عدد سكان العالم و30% من نسبة الوفيات بالفيروس، جنباً إلى جنب مع التراجع الاقتصادي الحاد، والقفزة النوعية في استعداد الناس لمواجهة المنظومة القائمة، والتي عبرت عنها المظاهرات الآخذة بالتوسع في جميع أنحاء الولايات المتحدة.

إن نطاق وشدة الاحتقان الذي هزّ الولايات المتحدة الأمريكية منذ مقتل المواطن الأمريكي، جورج فلويد، على يد الشرطة في ولاية مينيابوليس، يتصاعد على نحوٍ مثير للانتباه. حيث شارك الملايين من مختلف «مكونات» المجتمع الأمريكي في نشاطات تتراوح بين الوقفات الاحتجاجية الصامتة، وصولاً إلى تحولها إلى مواجهات فيما لا يقل عن 140 مدينة و500 حي. بالتوازي مع ظهور دعوات صريحة وجدية تدعو المتظاهرين إلى تنظيم أنفسهم في تجمعات سياسية، درءاً لخطر اختطاف الحراك الحاصل الآن من قبل أطراف سياسية متعددة لها مصلحة في ذلك.
وحتى تاريخ إعداد هذه المادة، كان قد تم استدعاء الحرس الوطني الأمريكي في 26 ولاية إلى جانب وحدات أخرى من الجيش الأمريكي، بما في ذلك كتيبة من المظليين من الفرقة 82 المحمولة جواً. وهذا ما يوحي بأن لدى الإدارة الأمريكية تقديراً بالغ الجدية بأن الأحداث من المرجح أن تتصاعد.

أكبر عدد سجناء في العالم

لم يحصل أي اضطراب سياسي مشابه من حيث الحجم (مع وجود فروقات كبرى) للاضطراب السياسي الحالي في الولايات المتحدة الأمريكية منذ شهر نيسان عام 1968، وذلك عندما عمّت الاحتجاجات أكثر من 100 مدينة أمريكية في أعقاب اغتيال الدكتور مارتن لوثر كينغ جونيور، القائد الأمريكي الذي قاد النضال المتصاعد المطالب بإنهاء التمييز العنصري ضد «السود» في عام 1964.
في ذلك الوقت، استجابت الإدارة الأمريكية التي تقودها الشركات الكبرى للتحدي الماثل أمامها من خلال التوسع الهائل في عسكرة قوات الشرطة المحلية في الولايات، وعمليات الشرطة السرية المكثفة للتخلص من قادة الحراك، فضلاً عن سياسة السجن الجماعي للمنضوين تحت لواء هذا الحراك، والتي امتدت على مدار نصف القرن الماضي. وتؤكد الأرقام ذلك، حيث ارتفع عدد السجناء الأمريكيين في سجون الولايات المتحدة من 200,000 سجين في عام 1970، إلى ما يزيد عن 2,2 مليون سجين اليوم، أي أكثر بـ 11 مرة مما كان عليه في 1970.

الأزمة الشاملة... عوامل جديدة

تعيش الولايات المتحدة اليوم أزمة سياسية اقتصادية اجتماعية شاملة، والحديث المفصل عن عواملها سيحتاج بلا شك إلى بحثٍ أطول وأكثر عمقاً، لكن يمكن لنا أن نميز بسهولة أربعة عوامل ناشئة حديثاً، تشكل مع ما سبقها من عوامل أساسية لحظة انعطافية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية:
أولاً: نزع فيروس كورونا ورقة التوت الأخيرة عن النموذج الأمريكي، وكان بمثابة عامل إظهار لمكامن الخلل في المنظومة الرأسمالية الأمريكية وعامل تسريع للوقوف ضدها. وهذا الفيروس، إلى جانب كشفه عن ضعف النظام الصحي داخل الولايات المتحدة، كشف عن الطبيعة العنصرية للنظام الرأسمالي الأمريكي. وهنا يمكن أن نشير إلى أن واحداً من الشعارات التي يرفعها المتظاهرون والتي لا تحظى بتغطية إعلامية إلا بشكلٍ محدود وضيق، هو الاعتراض على أن نسبة الوفيات جراء الإصابة بفيروس كورونا بين صفوف المواطنين «السود» هي ما بين 2,6 إلى 4 أضعاف النسبة بين صفوف المواطنين «البيض»، وفي هذا إشارة ليس إلى وقوف النظام الأمريكي إلى جانب «البيض»، بل إلى مشكلة أحياء المهمشين التي يسكن غالبيتها مواطنو الولايات المتحدة من «السود واللاتينيين والآسيويين... إلخ»، ووصول هؤلاء للاستفادة من النظام الصحي الأمريكي الضعيف أصلاً هو شبه مستحيل.
ثانياً: ارتفاع معدلات البطالة في الولايات المتحدة إلى مستويات غير مسبوقة تاريخياً، في مقابل تراكم الأرباح والمعونات الحكومية لدى الشركات الأمريكية الكبرى التي لم تساهم فعلياً في إخراج المجتمع الأمريكي من أزمة الفيروس، بل لعبت دوراً معاكساً دافعاً الناس نحو الموت نتيجة تؤخر الإغلاق ثم الإعادة المبكرة للنشاط الاقتصادي الأمريكي على حساب صحة العاملين.
ثالثاً: على مدار السنوات الأربع الماضية، انقسمت الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة على نفسها، وفي هذه الجزئية، تعيش الولايات المتحدة أزمة حكم مستعصية، حيث تدفع التيارات داخل الإدارة الأمريكية إلى إحراج بعضها بعضاً، مما يصعب إلى حدٍ كبير التعامل مع المدّ الحالي في الحراك الشعبي الأمريكي، الذي نجد تياراً يحاول مواجهته، وتياراً آخراً يحاول احتواءه لاستخدامه كورقة ضغط ضد التيار الأول.
رابعاً: أثارت ظاهرة بيرني ساندرز، بوصفها ظاهرة تحاول ركوب موجة «الاشتراكية» وظاهرة أطلقها الحزب الديمقراطي وأطفأها الحزب الديمقراطي، قناعة جديدة لدى الجيل الأمريكي الشاب الباحث عن سبل للتخلص من قيود هذه المنظومة الرأسمالية، وهي أن التغيير من خلال الدمى التي تحاول أن تقدم نفسها للجمهور على أنها «بديل» عن المنظومة القائمة لن يفلح ولن ينجح. وهو ما ساهم أيضاً بنزول أعداد أكبر إلى الشارع للتعبير عن ذلك.
وبالرغم من القسوة والسادية التي حملها فيديو إعدام جورج فلويد، إلا أن ما ينبغي التذكير به، هو أن هذا الفيديو ليس السبب الأساسي في تصاعد الحراك الشعبي داخل الولايات المتحدة، ذلك لأن جوهر المطالب التي تسود الولايات المتحدة اليوم لا يرتبط فقط بمطالب جنائية ترتبط بحادثة جورج فلويد، بل يتعدى ذلك ليطال جذور المنظومة الرأسمالية الأمريكية التي تعتدي على أبسط الحقوق الطبيعية للمواطنين الأمريكيين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
969
آخر تعديل على الإثنين, 08 حزيران/يونيو 2020 12:27