هندسة اجتماعية أم منطقة آمنة؟

هندسة اجتماعية أم منطقة آمنة؟

اتسعت دائرة الحديث مجدداً عن المنطقة الآمنة في شمال شرق البلاد في إطار مشروع أمريكي – تركي ذي تسمية واحدة، جوهره إنّ كل طرف يبحث من خلاله عن ذريعة لشرعنة وجوده في هذه المنطقة من البلاد، ويبدو أن كليهما بحاجة إلى الآخر لتمرير مشروعه وتسويقه، وهو ما لم يحصل حتى الآن، بل إن المؤشرات والتصريحات والتسريبات تشير إلى عمق الخلاف بين الطرفين حول محتوى وشكل ما يسمى المنطقة الآمنة المزمع تشكيلها، بما يؤدي إلى نسفها من الأساس.

يحاول الطرفان تقاسم ما ليس لهما أصلاً في مخالفة صريحة واستفزازية للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، فالأرض المزمع إقامة المنطقة الآمنة فيها هي أرض دولة عضو في الأمم المتحدة في سابقة قلّما وجدنا لها نظيراً بهذه الوقاحة منذ سايكس بيكو.

(الاتفاق- الاختلاف) الامريكي التركي هو نتاج بقايا عقلية استعمارية لدى الطرفين، فكل طرف يسعى إلى تعزيز وجوده، وكل منهما بحاجة إلى التوافق مع الآخر لإنشائها، لشرعنة نفوذه، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل بأن عصر الاستفراد بالقرار انتهى، بدلالة التخبّط الذي يعاني منه طرفا المشروع، وما تعجز كل دولة عن القيام به منفردة أو مجتمعتين.

إن لهاث الطرفين واستعجالهما واصرارهما يرتبط الى حد كبير بتقلّص نفوذ هاتين الدولتين في الأزمة السورية، لاسيما وأنَّ حسم موضوع إدلب الذي تتوزع فيها ولاءات الجماعات المسلحة على الأرض بين الطرفين، دخل حيّز التنفيذ، وبات إنهاء الوجود الإرهابي في تلك المنطقة مسألة وقت، وسيحدث نقلة نوعية جديدة نحو حل الأزمة.

ماذا يريد الامريكي؟

نعتقد، أنّ المحاولة الأمريكية للبقاء الرمزي في الشمال الشرقي تأتي ضمن محاولة الإمساك بما تبقى من خيوط اللعبة، ومحاولة ضرب كل القوى بعضها ببعض، دون أن نغفل في هذا المجال دور عصابات نهب الثروة والجريمة المنظمة والاتجار بالبشر ورأس المال الاجرامي والجماعات الإرهابية، وجميع أشكال البيزنس غير المشروع في دول المنطقة كأدوات، إنّ العملية برمتها بالنسبة لواشنطن تندرج في إطار عمليات الهندسة الاجتماعية، وخلط الأوراق وتنفيذ الألاعيب الجيوسياسية، مهما كانت النتائج والكوارث التي ستحصل من جرّاء ذلك.

إن وجوداً أمريكياً مستداماً في هذه المنطقة، يعني السعي إلى ابتزاز قوى عديدة، ومحاولة لاحتواء قوى متناقضة، مستفيدة من المستوى العالي من التناقضات بين الأطراف المختلفة، بغية الإبقاء على حالة اللاحل.

ما يدعو إلى الأسف هو أنهُ رغم الوهن الأمريكي الذي بات ظاهراً، إلّا أنّ الولايات المتحدة ما زالت تمتلك من الأوراق ما يمكنها من العبث، لا بسبب قوتها هي، بل لضعف الآخرين، ولأنها تستثمر في جملة الأزمات والتعقيدات القديمة والجديدة، فوجود مشكلة بحجم المشكلة الكردية دون حلّ ديمقراطي عادل لوحدها، يفسح المجال لواشنطن بخلط الأوراق في عموم دول المنطقة بما فيها تركيا، طالما أن الدول المعنية لم تبادر إلى حلّ مشاكلها بنفسها، وبقاء التوتر بأي شكل كان، في الشمال الشرقي يُعرقل السّير باتجاه الحل السياسي للأزمة السورية بموجب القرارات الدولية. 

إن سياسة العصا والجزرة التي تستخدمها واشنطن مع أنقرة مستفيدة من الانقسام الداخلي التركي، والمرحلة الحرجة التي تمر بها تركيا، إنما تعمل من خلاله على رفع مستوى التوتر العام في المنطقة، ومحاولة إحداث شرخ بين مجموعة أستانا التي يمكن أن تصبح جنين تحالف إقليمي يؤدي إلى تقليص النفوذ الأمريكي في الشرق عموماً.

ماذا تريد تركيا؟

المنطقة الامنة المزعومة بالنّسبة لتركيا هي محاولة للهروب إلى الأمام، وتصدير الأزمات الداخلية، سواء كانت أزمات قديمة كالقضية الكردية، أو الملف الاقتصادي، أو أزمات جديدة تتعلق بالاستدارة شرقاً وتبعاتها.

يعكس التخبط التركي ولا واقعية أُطروحاته حجم الانقسام في الدولة والمجتمع التركيين، فحجم الترابط التاريخي مع الغرب الاستعماري لا يسمح بالانفكاك السريع عن المنظومة، كما أن البقاء ضمن المنظومة الغربية من موقع التابع الذليل لم يعد ممكناً بحكم العقلية الاستعلائية الغربية، فتركيا والحال هذه تمرّ بلحظة قلق تاريخي ذات طابع وجودي، وتحتاج إلى حسم خياراتها لا على صعيد العلاقات الدولية فحسب، بل على صعيد حلّ التناقضات الداخلية، ومنها المشكلة الكردية، والعلاقة مع دول الجوار، فمع احتدام التناقض الدولي بين الغرب والقوى الصاعدة في الشرق، ما عاد بالإمكان اللعب على الحبال، وأية محاولة للتدخل العسكري المباشر بحجة المنطقة الآمنة سيترك تأثيرات كارثية على عموم بلدان المنطقة بما فيها تركيا نفسها.

الرهانات الخاسرة

تحاول قوى الإدارة الذاتية جاهدة الإبقاء على الوجود الأمريكي في المنطقة، ظناً منها بأنّ بقاء القوات الأمريكية من الممكن أن يردع تركيا عن القيام بأية مغامرة عسكرية، في حين أن جميع المعطيات تشير إلى أن هذه الحماية المزعومة ما هي إلا أداة ابتزاز لتركيا قبل أن تكون دعماً لقوات الحماية، يمكن أن تنتهي في أية لحظة، أو في أفضل الأحوال ستستبدل القوات الأمريكية بقوات دولية أخرى، لن تكون نتيجتها إلّا المزيد من الفوضى، والمزيد من الانزلاق إلى التجاذب الدولي والاقليمي، مما يعني فتح الباب على المجهول دائماً، والإبقاء تحت عصا الابتزاز الأمريكي. 

إن استثمار واشنطن في المأزق الذي تمر به قوى الإدارة الذاتية يمنحها فرصة لممارسة المزيد من الابتزاز وفرض الشروط، فقوات الحماية الذاتية التي تورطت مع مشاريع واشنطن تمر بمأزق. بعد أن تم تضخيم دورها بشكل مفتعل، بما يُحمِّلها عبئاً يفوق طاقاتها في منطقة تعجّ بالتناقضات على أكثر من مسار، ومن أكثر من جهة، وبين دول عديدة. .

المبادرة الفرنسية 

من جملة القضايا المرافقة لفكرة المنطقة الآمنة هي التوكيل الأمريكي لفرنسا بالسعي إلى ترتيب البيت الكردي، وإجراء تفاهم بين كل من المجلس الوطني الكردي وتيار الإدارة الذاتية.

من حيث المبدأ يعتبر ترتيب البيت الكردي إحدى الضرورات الوطنية السورية، وضرورة كردية في الوقت نفسه، ولكن السؤال: على ماذا يجب أن تكون التوافقات؟ ومن هي الجهة القادرة على إحداث هذا الاختراق؟ وهل يكفي ( الضغط) الدولي لإنجاز هذه المهمة؟ وهل تريد القوى الغربية حل مثل هذه الإشكالات أصلاً؟

إنّ الأصل في انقسام البيت الكردي هو اختلاف الرؤى تجاه الوضع في البلاد عموماً، وما يخصّ المسألة الكردية خصوصاً، خلال مختلف مراحل الأزمة، والآن وبعد أن كشفت سنوات الأزمة عقم جميع الخيارات الأخرى، غير تنفيذ القرارات الدولية عبر التفاوض والجلوس إلى طاولة الحوار، فإنّ المدخل إلى ترتيب البيت الكردي بشكل جِدّي يمر حصراً من خلال استعداد الجميع للانخراط في عملية الحل السياسي، وإشراك الإدارة الذاتية في هياكل الحل، والوصول إلى حل توافقي يفضي إلى التغيير الوطني الديمقراطي الجذري والشامل، بما فيه معالجة الملف الكردي على أساس الاعتراف الدستوري بالوجود الكردي، والكف عن كل سياسات التمييز القومي.. إنّ وحدة الصف الكردي ليست مسألة أخلاقية فقط، بل تتعلق قبل ذلك بتوحيد الرؤى التي لابدّ أن تنسجم مع القرارات الدولية، الأمر الذي لا يؤدي إلى توحيد الكرد فقط، بل عموم السوريين، لبناء دولة ديمقراطية موحدة، يعيش فيها جميع السوريين على قدم المساواة، يلجم التهديدات التركية من جهة، ومشروع استكمال الفوضى الخلاقة من جهة أخرى.

وكما كان التدخل الدولي طريقاً لتعميق الانقسام بين السوريين، فإن ما يُسمى توحيد الصف الكردي من البوابة الغربية سيزيد من تعقيد المسألة سورياً وكردياً، وفي أفضل الأحوال لن تفضي إلاّ إلى ترحيل الخلافات وإبقائها كلغمٍ قابلٍ للتفجير مع ايّ تبدّل في الوضع. 

تحول عالمي 

يبدأ الخطأ في مقاربة المشكلة السورية، أو أي جانب من جوانبها بما فيها مشكلة الشمال الشرقي، عندما يتم التعاطي معها خارج سياق التحول الجاري على المستوى العالمي، فالأزمة السورية، ومنها مشكلة الشمال الشرقي هي جزء من سياق أزمة أعم، هي المشكلة السورية وترابطاتها الدولية والإقليمية، وبالتالي، لا يمكن البحث عن حلّ خاص خارج إطار حلّ المسألة السورية، وعليه فإن وضع ما يسمى المنطقة الآمنة، سواء كانت بصيغتها الأمريكية أو التركية هي مجرد خطوة في الفراغ، لا تُغيّر من حقيقة أنّ الأزمة السورية في طريقها إلى الحل، وعلى طاولة التفاوض حصراً، وبموجب القرارات الدولية وخصوصاً القرار 2254 وكل ما عدا ذلك لا مستقبل له إلّا استدامة الأزمة واستحداث عراقيل جديدة، قد تؤخر، ولكن لا تستطيع أن تمنع الحل، ومن هنا فإن القوى التي تستطيع الحصول على حقوقها المشروعة، هي بالمحصلة تلك القوى التي تسارع إلى الانخراط في الجهود الدولية من أجل الإقلاع باللجنة الدستورية واستئناف العملية السياسية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
924
آخر تعديل على الأربعاء, 31 تموز/يوليو 2019 15:13