أكاذيب الـ «Overnight» الأمريكية!
في عالم البورصة هنالك ما يسمّى القروض الليلية، ذات الغاية المضاربية... والتي تكتنف كما في كل منتجات عالم المضاربة، على مرابح وعلى خطورة، وهي أقرب للمغامرة، وما هو اختراع من عالم المال الأمريكي، يمكن أن ينطبق على عالم السياسية الأمريكية اليوم!
يستخدم مصطلح overnight loan، أو القرض عبر الليل كترجمة حرفية، أو القرض «بين ليلة وضواحيها» استعارة من زياد الرحباني، للتعبير عن شكل من التعاملات المالية ضمن أسواق البورصة؛ حيث تلجأ الشركات- التي تتوقع ازدياداً فوق المتوسط المعتاد في حاجة عملائها للمال السائل في يوم العمل التالي- إلى اقتراض أموال بين إغلاق السوق وافتتاحه في اليوم التالي، وعملياً خلال الدقائق الأولى من يوم العمل الجديد، وبالعكس فإنّ الشركات التي تتوقع انخفاضاً في حاجتها للسيولة، تقوم بإقراض عبر الليل. وفي الحالتين فإنّ هذا النوع من القروض هو الأقصر عمراً بين كل أنواع القروض، وهو في الواقع لا يستغرق حتى ليلة وصولاً إلى «ضواحيها»، بل يستغرق في الغالب الدقائق العشر الأولى من يوم عمل البورصة، ولهذا السبب فإن معدلات الفائدة فيه هي الأخفض بين جميع أنواع القروض.
ما أوردناه أعلاه هو التفسير «الرسمي» لغاية هذا النوع من القروض، ولكن لا يخفى على من يدقق في العملية قليلاً، أنّ هذه القروض يمكنها ببساطة أن تستخدم كأداة فعالة في عمليات المضاربة؛ فمجرد قيام شركة باقتراض كمية Overnight هو إشارة إلى أن الطلب على أسهمها سيكون عالياً في يوم العمل المعني، وبالتالي السعر أعلى والطلب أعلى، الأمر الذي سينشط حركة تداول أسهمها، وكلّما كان القرض أكبر فإنّ الكذبة ستكون أكبر، واحتمال الإقبال أعلى، بما يسمح ليس بتعويض فوائد القرض فحسب (وهي نسب مئوية صغيرة عادة)، بل وبتحصيل نسبة أرباح.
الخطير في هذا النوع من المضاربة (من وجهة نظر الشركات والمضاربين)، أنّ الإقدام عليها ينبغي أن يكون محسوباً وليس عملية تلاعب بحتة Bluffing؛ لأنّ الخسارة في هذه الحالة، حين تحصل، فإنها لن تقتصر على خسارة فائدة القرض، بل أهم من ذلك أنها ستزعزع ثقة العملاء بالشركة، وفي حال تكرارها فإنها ستفقدها الثقة نهائياً وتهوي بها.
ورغم أنّ الكلام السابق، يبدو خاصاً بأسواق البورصة فحسب، وبالطريقة التي يفكر فيها «المتبورصون»، إلا أنه قابل للاستخدام كأداة في فهم السياسات الأمريكية؛ ولا غرابة في ذلك، لأنّ الشركات نفسها، والأشخاص أنفسهم، ومع سيطرة رأس المال المالي التامة، هم ملوك الساحتين المالية والسياسية، بل وتزول الغرابة بشكل كامل حين نرى شخصية من طراز ترامب على رأس الهرم السياسي الأمريكي...
«Overnight سياسي» خاسر
لنقف عند بعض القروض الليلية التي خسرتها واشنطن خلال السنة الماضية... قروض جيمس جيفري، البدء بجيفري ليس عشوائياً؛ فهو أحد أهم مقرضي الغسق، وأكثرهم فشلاً.
بالعودة إلى الأشهر الأخيرة، يمكننا التوقف عند القروض الكلامية التي منحها لأطراف مختلفة في سورية ومن جهات مختلفة، من البقاء الطويل الأمد و«الهزيمة الدائمة» لداعش، إلى زعمه أن الأوربيين وافقوا ليس على إبقاء قواتهم الرمزية أصلاً في سورية، بل وزيادة عديدها، بل وزيادة عديدها بشكل ضخم. إلى منطقته «الآمنة» العجائبية المكونة من خمس مناطق تسيطر على كل منها قوة تحتاج إلى قوات فصل بينها وبين القوى الأخرى، وليس انتهاءً بوعود تدفق أموال «إعادة الاستقرار- Restabilization» على منطقة واحدة من سورية بما يسمح بفصلها عن سورية، أو تحويلها إلى ورقة ضغط لتفجير الحل السياس.
ولعل أكبر قرض كلامي لجيفري، هو القرض الذي سلمه لتركيا يوم أعلنت الولايات المتحدة عن جوائز مالية ضخمة لأية معلومات يجري تقديمها عن ثلاثة قيادين في العمال الكردستاني، والذي ترافق مع إشارات كثيفة عن تعاون أوروبي خليجي أمريكي يهدف للوصول إلى «منطقة آمنة» تكون تركيا فيها طرفاً ثانوياً إنْ كانت أصلاً، بالترافق مع ملف منبج الذي بقي معلقاً بينهما. قروض ترامب مع ترامب، فإنّ للقروض الليلية نكهة أخرى، أكثر قوة؛ وهي قروض لا في الشأن السوري وحده بطبيعة الحال، بل وعبر البورصات السياسية العالمية بأسرها، وعلى رأسها: الصين التي كلما ظهر أنّ هناك احتمالاً لتقدم التوافق معها، كما جرى في الأسابيع الأخيرة، سرعان ما «يخبص» الأمريكيون باتجاه مستوى جديد من التصعيد لا تمر عليه أيام قليلة حتى يظهر أنهم ورطوا أنفسهم بدفع فوائد قروضهم الليلة وفوقها خسارات إضافية بالجملة؛ المثال الأقرب زمنياً هو: الحرب ضد شركة «هواوي»، التي باتت نتائجها واضحة ومحسومة بعد ساعات قليلة من إعلان مقاطعتها.
وفي الملف الإيراني أيضاً، فإنّ لترامب استثماراته الليلية، والتي أدى رفع سقوف الاقتراض فيها الهادف إلى التفاوض بسقف أعلى إلى فتح الطريق نحو التفاوض أيضاً ولكن بسقوف أدنى من السابق.
و«صفقة القرن»، التي تشكل القرض الأكبر الخاص بمنطقتنا، تلقت ضربة شديدة القسوة بصواريخ المقاومة في غزة، والضربة الأكبر لن تتأخر كثيراً، لأنّه حتى تلك الدول التي تعتمد أمريكا على تبعيتها لتسيير الصفقة، باتت أعجز من المضي بها قدماً، ليس لأنها لا تريد أو لا ترغب، بل ببساطة لأنها لا تستطيع! عن تصعيد مرحلة التفاوض، إنّ سيطرة عقلية المضارب على سياسة واشنطن، هي عامل نزعم أنه لا يمكن إغفاله في فهم تلك السياسة.
الطريف في الأمر أنّ القوة العظمى المتراجعة، ومع كل تصعيد جديد تقوم به، وفي كل ساحة من الساحات، وفي سعيها لرفع سقوف تفاوضها، لا تفعل سوى تخفيض تلك السقوف عبر كشف حجم قواها الفعلي، وعجزها عن طرح أي مشروع بديل؛ فمشاريع الـovernight باتت مكشوفة بالنسبة للجميع، بما في ذلك حلفاؤها، ليس بوصفها مشاريعاً، بل كما هي حقيقة: تكتيكات، هدفها: إعاقة مشاريع الآخرين في ظل غياب المشروع!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 915