معالم في التوازن الدولي والتحالفات منذ 2013
يزن بوظو يزن بوظو

معالم في التوازن الدولي والتحالفات منذ 2013

«في بيت الرأسمالية الداخلي، عمّقت الأزمة الرأسمالية العظمى الانقسام ضمن المعسكر الرأسمالي نفسه بين المركز الإمبريالي الأمريكي- الأوروبي من جهة، والقوى الصاعدة «البريكس» من جهة أًخرى، وصولاً إلى توازن دولي جديد انتهت فيه أُحادية القطبية الأمريكية...» من مشروع برنامج حزب الإرادة الشعبية- 2013.

إذا كان ما سبق قادراً على التعبير بلحظته عن رؤية حول الصراع الدولي، وآفاقه، فإنه اليوم وبعد 6 سنين منه، قد بات قاصراً في التعبير الكافي، عن مستويات الانقسام في المعسكر الرأسمالي، وعن طبيعة التحالفات الجديدة التي تنشأ... فما أهم ما أضافته قاسيون خلال السنوات التالية في هذا الإطار؟
لم يعد الانقسام بين المركز الغربي أمريكا- أوروبا، وبين القوى الصاعدة فقط... ولم يعد يصحّ اختزال القوى الصاعدة اليوم في «بريكس» وحدها؟ وإذا كان يمكن القول بانتهاء الأحادية القطبية الأمريكية منذ 2013، فما هي ملامح التوازن الدولي الجديد، أهي تعددية قطبية، أم أن الحديث عن «قطبية» أصبح غير دقيق؟
سوف نقسّم مجازاً عملية التغيير في الميزان الدولي إلى عدة مراحل: الأولى: هي مرحلة التأسيس 2001 – 2013، الثانية: مرحلة المواجهة 2013 – 2018، الثالثة مرحلة التثبيت 2019 - ....

تمهيد

انتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار عالمي بقيادة السوفييت أولاً على الفاشية النازية، ولكن الحرب الكبرى المدمرة، أخرجت السوفييت منتصرين، ولكن بخسائر ودمار كبير، وأخرجت الأمريكيين بانتصار وغنائم مقابل خسائر هامشية. وربما ينبغي الاستناد إلى تلك اللحظة في منتصف القرن العشرين، إضافة لعوامل عديدة أخرى، لقراءة النصف الثاني منه، الذي شهد ذروة التراجع الثوري فيه مع نهاية الاتحاد السوفييتي في عام 1991. ليستفيد الغرب من «بحبوحة» الفراغ، التي تركها هذا الحدث، ولكن لمدة قصيرة لم تتعدَ عقداً ونيفاً من الزمن وصولاً إلى انفجار الأزمة في 2008.
حيث أكدت من جديد أنّ عدوّ الرأسمالية الأوّل: هو الرأسمالية نفسها وقوانين عملها، حفّارة قبرها. فإذا كانت «الطبقة العاملة» صنيعة الرأسمالية، ومصدر ربحها وعدوها الأساسي... وإذا ما كانت الأزمات الدورية نتيجة محسومة لسير الرأسمالية وقوانين حركتها، فإن ما أصبح يُسمى «القوى الصاعدة»، هو أيضاً نتاج للتطور الرأسمالي المتناقض. حيث إن عوامل موضوعية تدفع إلى تبلور تحالفات هذه القوى، على أساس الدفاع عن النفس، وتحصيل الحقوق الموضوعية بناءً على ميزان القوى الجديد، لترسم طريقاً مختلفاً سياسياً واقتصادياً، عن مسار مشروع الفوضى الغربي. وقد بدأت أولى إشارات مسعى الأطراف الصاعدة للتعاون وتجميع القوى مع مطلع الألفية الجديدة في 2001.

المرحلة الأولى: التأسيس– وبداية التراجع

بدأت أولى علامات نشوء «قوى صاعدة» بالمعنى العملي مع تأسيس «منظمة شنغهاي للتعاون» في 15 حزيران 2001 في مدينة شنغهاي الصينية، وضمّت حينها: الصين وروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان بالإضافة إلى دول مُراقبة، منها: الهند وباكستان وإيران، وجرى توقيع ميثاقها في 2002، ثم دخل حيز التنفيذ في 2003، حيث تكوّنت أهدافها لتعزيز وتعميق التعاون في المجالات السياسية والتجارية والاقتصادية والعلمية والتقنية، لتشكّل المنظمة قاعدة انطلاق صلبة معتمدة على إقليم «آسيا الوسطى» التي أصبحت لاحقاً النواة الأساس لفكرة وحدة «أوراسيا» ومشروع طريق الحرير الصيني...

في عام 2017 جرى ضمّ كلٍّ من الهند وباكستان كدول كاملة العضوية في المنظمة، وتقديم الإشارات باتجاه عضوية إيران مستقبلاً... أمّنت منظمة شنغهاي بيئة تعاون آسيوي مستقلة، ومتعددة الجوانب.
الرافعة الأساسية لمرحلة التأسيس، هي: التحول الكبير في مراكز الإنتاج الاقتصادي العالمي، والمواضع التي يتحرك فيها النمو، ويتسارع التقدم. إذ أصبحت الصين والقوى الصاعدة مركزاً للنمو العالمي، والدافع نحو الأمام. حيث تضاعف الناتج الإجمالي للصين وحدها بحسب بيانات بين 2007 و2017 بزيادة 117%، مقابل زيادة 1.5% فقط بالناتج الأمريكي خلال السنوات العشر ذاتها. كما أصبحت الصين المُصدّر العالمي الأول، وأمريكا الثاني، لتساهم الصين بنسبة 20% من ناتح الصناعات العالمية بينما أمريكا 14%، بل أصبحت أيضاً المنتج العالمي الثاني للصناعات عالية التكنولوجيا، بعد أن كانت لا تدخل هذا التصنيف في عام 2003!
التغيرات الاقتصادية كانت تترافق مع تأسيس روابط وتحالفات جديدة، والبريكس أحدها. التي بدأت بتحالف «بريك» في 2009 والتي ضمّت حينها: روسيا والصين والهند والبرازيل، ثم انضمت دولة جنوب إفريقيا في 2010 لتصبح «بريكس»، التي كانت أهدافها الأولية التعاون في المجال المالي، وحل المسألة الغذائية، ثم تطورت لاحقاً لإنشاء منظومات تمويل للتحالف. وبحسب إحصاءات «صندوق النقد الدولي» خلال السنوات العشر الماضية، فقد ارتفعت نسبة الاقتصاد الكلي لـ «بريكس» من 12% إلى 23% وازدادت حصتها من التجارة الدولية من 11% إلى 16% وتجاوزت إسهاماتها في نمو الاقتصاد العالمي 50%...
ليأتي لاحقاً مشروع الحزام والطريق الصيني، الذي أطلق في عام 2013، والذي يعتبر الإطار الأوسع، ليشمل أكثر من 150 بلداً ومنظمة، بتمويل كبير لمشاريع الربط والبنى التحتية وفق منطق تمويل وإقراض وتعاون جديد.

المرحلة الثانية: المواجهة– بدء تسريع التراجع

في الحقيقة بدأت أولى إشارات المواجهة المباشرة في 2011، أيّ: عند إطلاق أول فيتو روسي- صيني مشترك في مجلس الأمن على مشروع قرار أمريكي حول سورية وجرى ردعه تماماً، بالمقارنة مع العنهجية الأمريكية السابقة لهذا التاريخ بفترة غير طويلة في عدوانها على «ليبيا» على الأقل. ورغم أن الغرب لجأ إلى أدوات تدخل أخرى، إلا أن كل المحاولات لإحداث انعطافة كبرى جرى تأريضها بالفيتوات المشتركة الروسية- الصينية. لتصل الأمور ذروتها مع إنشاء داعش، وإعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما في عام 2015 بأن القضاء عليها سوف يستغرق نحو «30 سنة» وفقاً لأحلام وطموحات مشروع الفوضى الأمريكي. هنا انتقل الدور الروسي إلى عتبة جديدة، لتدخل روسيا بشكل شرعي وعبر القوانين الدولية في المعركة العسكرية مباشرة في سورية، لتقضي على داعش في «3 سنوات».

بالإضافة إلى ذلك تم تشكيل «آستانا» كنواة لمنظومة إقليمية لحل أزمات المنطقة الأكثر سخونة عالمياً، وبمعزلٍ عن واشنطن وحلفائها، ومعادية لمشروع الفوضى، وباحثة عن توافقات، لتفضي في المحصلة إلى تقليص معظم ذرائع واشنطن بتواجدها عسكرياً في سورية، وتفضي إلى إعلانها الأخير بنيتها على سحب قواتها من المنطقة.
خلال هذه المرحلة، ومنذ ما بعد الأزمة المالية العالمية، فإن المركز الغربي قد بدأ بالتأزّم، من حيث مسار النمو الاقتصادي المتراجع، من حيث تراجع تجارته العالمية، ومن الأزمات المالية التي تركزت في أوروبا، وهددت وتهدد وحدة الاتحاد. من اليونان، وصولاً إلى بريطانيا، ومروراً بالانعطاف الحاصل في الحكم في دول هامة مثل: إيطاليا...
وفي قلب المركز الغربي الأمريكي، انتقل انقسام الحكم العميق إلى العلن، وصَعد «ترامب» لا كرئيس فقط، بل كبرنامج سياسي أمريكي جديد يعمل مباشرةً على تنظيم التراجع بالـ «انكفاء نحو الداخل» مُنسحباً من العديد من المنظمات والاتفاقيات الدولية كـ: مجلس حقوق الإنسان، واليونيسكو، واتفاقية «باريس» للمناخ، والاتفاق النووي الإيراني، واتفاقية التجارة العالمية، وأخيراً اتفاقية الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى... وسلسلة العقوبات الاقتصادية المستمرة والمتصاعدة، بما فيها الحرب التجارية.

المرحلة الثالثة: التثبيت– استكمال التراجع

عانت واشنطن في مرحلة المواجهة السابقة هزائم عدة متتالية، ولم تستطع أن توصل أيّ صراع تُشعله إلى المستوى المطلوب من الفوضى والتوتر... كما في سورية وكوريا وأوكرانيا، كما لم تستطع أن تمنع تطور العلاقات الروسية الأوروبية، كما في السيل الشمالي2، والسيل التركي الجنوبي، واتفاقية إس400 لتركيا... كما لم تفلح في إبعاد حلفائها الأوروبيين تماماً عن الصين، إذ انضمت الدول الأوروبية إلى بنك تمويل التنمية والبنى التحتية الصيني، وتتفاعل العديد من دول أوروبا مع مبادرة الحزام والطريق.
بدأت إشارات الاعتراف الأمريكي بالتراجع، وتثبيت التوازن الجديد، في «قمة هلسنكي» التي جمعت كلاًّ من الرئيس الروسي بوتين والأمريكي ترامب في تموز 2018، فبعد وصول العلاقات الروسية- الأمريكية إلى أدنى مستوياتها قُبيل الاجتماع ظهر ترامب مُتنازلاً عن كُل التعجرف الأمريكي بفعل الظروف الموضوعية السابقة في مرحلة المواجهة، بتخفيف الخلافات والعمل على إعادة العلاقات بين البلدين والاتفاق على العمل لحل مختلف الملفّات الدولية العالقة. ورغم التصعيد اللاحق في العلاقات وعدم نجاح تطبيع العلاقات... عاد طرح التوافق ليظهر في الولايات المتحدة الأمريكية، مع تثبيت التفوق في الردع النووي الروسي. وعاد بومبيو في الأسبوع الماضي إلى روسيا، لإعادة التفاوض حول الملفات الدولية العالقة. مقابل التصعيد الأمريكي في الحرب التجارية مع الصين... في تكتيك أمريكي يهدف لتوالي سياسة التفاوض في موضع والتصعيد في آخر.. بما قد يفيد في خلق تناقضات روسية وصينية. ولكن ما بين هلسنكي واجتماع بومبيو- بوتين، تلقّت واشنطن فيتو روسياً-صينياً مشتركاً على مشروع قرار يخصّ ملفّاً دوليّاً آخر هو فنزويلا، بالإضافة إلى فشل محاولة الإنقلاب هناك، في حديقة أمريكا الخلفية وعلى تخومها!
أما الصين، فإنها قد أعطت الدولار، أداة الهيمنة المالية الأمريكية الأهم، ضربة هامة، عندما أعلنت عن البترويوان، وعن إطلاق سندات شراء النفط باليوان المدعوم ذهباً، الأمر الذي يعني الهجوم على ربط النفط بالدولار... وفتح باب جديد للتمويل الدولي، ولعالمية اليوان، عن طريق حصة الصين من استهلاك النفط العالمي التي تقارب 17%... وهو كما يُقال: «أوّل الرقص...».

خلاصة

إن اللحظة التي تم استقراء التوازن الدولي الوليد الجديد خلالها وكتابة مقطع النصّ أعلاه كانت في خواتيم المرحلة الأولى «التأسيس»، والتي كانت شعلتها الأكبر في حينها تحالف «البريكس» بهدفه لكسر الأحادية وإنشاء «ثنائية قطبية»، لكن مع مشاهدة التطورات اللحظية والمتسارعة، والتي لا يمكن لأحد التنبؤ بها عدا عن إطارها العام الصحيح بأنه «تراجع أمريكي»، و«انتهاء الأحادية القطبية»، و«تغيير موازين القوى الدولية»، يتضح أنّ هناك أدوات وتجمعات تحالفية وتضامنية عديدة ومتنوعة المهام تنشأ وتتطور، وترتفع وتتزايد أهمية كل تجمع، أو تنخفض، حسب مكوناته وتطورات الوضع الدولي، وليتم إنجاز عملية إنهاء الأحادية القطبية، وليس بالضرورة باتجاه قطبين أو أكثر كما سبق.

معلومات إضافية

العدد رقم:
914
آخر تعديل على الأربعاء, 22 أيار 2019 19:45