الغربيون يتقاذفون «داعش»
مع بدء انتهاء تنظيم «داعش» في الشمال الشرقي لسورية، وحصاره في آخر معاقله وتحديداً بلدة الباغوز في محافظة دير الزور، التي بدأ المدنيون يخرجون منها، يرافقهم مستسلمون أو متسللون من مقاتلي التنظيم الذين يجرى أسرهم تباعاً، ظهرت مسألة لم تكن بحسبان قوى التحالف الغربي كما يبدو، ليتم التجاذب حولها...
بدأت منذ مدة تصريحات التهرب والتنصل من قبل بعض الدول الغربية، عن استلام ومحاكمة مواطنيهم المنتمين لتنظيم داعش، والمحتجزين من قبل جهات عدة ومنها واشنطن بعد أن باتت هذه الظاهرة قاب قوسين أو أدنى من الزوال.
آمال مُحطمة
لم تُخطط هذه الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها كبريطانيا وفرنسا وغيرها، في أثناء عملها على بناء «داعش»، أن تأتي لحظة يطالبون بها باستلام أفراد هذا التنظيم المنتمين لهم... فالغالب منهم كان يعمل وفقاً لموازين القوى الدولية القديمة، ويتوقع بناءً عليها: أن قوى الإرهاب هذه ستصبح لها كما سُمّيت: «دولة» قائمة بذاتها، وتمتد ربما عشرات السنين. لكن احتداد الأزمة الرأسمالية، فرض على الغرب والولايات المتحدة تراجعاً أقوى وأسرع، وفتح بالمقابل المجال واسعاً لصعود قوى أخرى لها رؤى وسياسات بمصالح مختلفة كلياً عن الغرب. لتدخل روسيا فيما بعد بعمليات عسكرية تقلب بها آمال واشنطن التي صرّحت حينها على لسان «أوباما» بأن القضاء على داعش سيستغرق نحو 30 عاماً، لينتهي التنظيم بعد 3 أعوام من انطلاق العمليات الروسية في مكافحة الإرهاب.
دواعش أوروبا مُعلّقين
أعلن ترامب الشهر الماضي عبر «تويتر» بأن الولايات المتحدة تحتجز ما يزيد عن 800 مُقاتل «داعشي» من جنسيات أوروبية مختلفة، منها: بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وطالب هذه الدول باستلام «مواطنيهم» ومحاكمتهم، أو سوف يضطر الأمريكان إلى الإفراج عنهم! بالإضافة إلى ذلك فإن المجموعات الكردية في سورية والعراق لديها مئات من المحتجزين الداعشيين الأجانب ذوو الجنسيات الأوروبية، الذين يرفضون بدورهم محاكمتهم ويطالبون بإرسالهم إلى دولهم التي أتوا منها..
تهرّب وإنكار
تبدي الدول الأوروبية تردداً ومماطلة واضحين إزاء التصرف حيال استعادة هؤلاء الأفراد، حيث قالت وزيرة الخارجية النمساوية كارين كنايسل: إن مجلس الشؤون الخارجية الأوروبية وافق على حق كل دولة أوروبية في اتخاذ قرارها بشأن استقبال مقاتلي داعش المقبوض عليهم في سورية. وأعلن رئيس الوزراء السويدي، ستيفان لوفين: إن بلاده لن تقدم أية مساعدة في إعادة مواطنيها الذين قاتلوا في صفوف تنظيم داعش. وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: إنه يجب محاكمة مقاتلي تنظيم داعش الفرنسيين الذين تم أسرهم في العراق وسورية في الدول التي يواجهون فيها اتهامات.
أبعد من أرقامٍ ومحاكم
قد يقول قائلٌ: لِمَ هذا التعقيد؟ لِمَ لا يأخذوهم ويحاكمونهم هناك، إعداماً. لكن في الحقيقة مصالح الأوربيين في هذا الأمر مختلفة قليلاً عن مصالح الأمريكيين... حيث الطرف الغربي عموماً يتمنى لو باستطاعته أن يبقي أداته «الداعشية» عتاداً ومقاتلين لاستخدامهم متى وكيفما يشاؤون لغايات عدّة، إلّا أن الواقع الجديد بات يضيق على أحلامهم هذه، ليجري خلافاً بينهم حول كيفية معالجة هذه المشكلة.
الأمريكيون من زاويتهم، يريدون الحفاظ على حياة هؤلاء «المقاتلين» الذين تم اختبارهم وتدريبهم وخاضوا المعارك، المحافظة عليهم ولو في السجون، وإن كان تحت حُكم «مدى الحياة»- كمقاتلين موجودين في الاحتياط - إلّا أن السير بهذا الأمر قد يكون بسيطاً على واشنطن لسبب واحد: حيث لا وجود لجنسيات أمريكية ضمن صفوف داعش يتم تداولها عبر الإعلام ليستردوهم. بينما يأتي مقاتلو داعش الغربيون من أوروبا بشكل أساسي، وعودة هؤلاء «المقاتلين» ووضعهم في الزنازين كأيّ سجين آخر– كونهم لا يملكون عقوبة إعدام- سينتج عنها ارتباكات في الداخل الأوروبي، ويفتح ملفات أمنية وسياسية أوروبية..
إن عودة هؤلاء ستثير جملة من التساؤلات، حول ظاهرة الدواعش الأوروبيين: فمن هم هؤلاء، وكيف تكوّنوا في قلب أوروبا، وكيف تم تسهيل إرسالهم إلى سورية وغيرها، ولماذا يتم استرجاعهم، ومن هي القوى المسؤولة عن هذا الملف الاستخباراتي؟.. وصولاً إلى أسئلةِ أعمق من قبل الشعوب الأوروبية وأطراف سياسية حيال علاقة هذه الأنظمة بهذه الكيانات الإرهابية، قد تصل إلى حدٍ تضطر بها هذه الحكومات اتخاذ إجراءات إقالات أو محاكمات تصل إلى قلب الحكم، وتحرّض انقسامات أعمق.
وقد يشكل هذا الملف أداة ضغط أمريكية على الأطراف الأوروبية، ليبازر الأمريكيون الأوربيين من خلالهم، ويحصلوا على شيء ما بمقابل التخلص منهم، وعدم إثارة «بلبلة» في الداخل الأوروبي.
ظاهرة «الإرهاب» تنتهي
لدى الغرب حلان بديلان لتوظيف هذه القوى، الأول: ترحيلهم إلى بقعة توتر جديدة، كما يجري في الحديث عن آسيا الوسطى، أو تنشيطهم في إفريقيا، ولكن هذا الأمر يصبح أكثر صعوبة، مع تغير ميزان القوى الدولية، ومراقبة الأطراف الدولية الأخرى لهذا الملف، والحديث العلني حوله، واستباقه بإجراءات وقائية لمنع استقرار الإرهاب وانتشاره في مناطق جديدة.
أما الحل الثاني، فهو: زجهم في معارك عسكرية خاسرة بغاية إعدامهم بعيداً عن أراضيهم، أو بالسيناريو الآخر: من يتبقى منهم، يُقتل من قبل التحالف نفسه للاستثمار الإعلامي في سياق «مكافحة الإرهاب».
أياً يكن السيناريو الذي سيستخدمه الغربيون لإنهاء مقاتليهم الإرهابيين، فالنهاية واحدة: هذه الأداة «الداعشية» انتهت فعلياً، وستتبعها الأداة الأسبق منها «القاعدة» مع وليدتها «جبهة النصرة»، وهذا كله يمثل خسارة كبرى لقوى الفوضى العالمية، الإمبريالية، التي خسرت أداة منخفضة التكاليف قياساً بقدرتها على إشعال الفوضى والحروب... إن ظاهرة «الإرهاب» تشارف على الانتهاء سورياً، وربما معها عالمياً. فلا يمكن إعادة تجريب أدوات الأمس التي تمت هزيمتها في عالم اليوم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 903