عن توتر الوضع الدولي.. وماذا يريدون من روسيا؟
قبل أن نجيب عن السؤال_ العنوان_ نتمنى ألّا يتفاصح أحدٌ من جديد، ويذكرنا بأن روسيا ليست الاتحاد السوفييتي، فنحن من يعرف ذلك أكثر من غيره، ونعرف لماذا، وكيف، ومتى كان ذلك؟
ولكن، اعذرونا..! فنحن ما زلنا من تلك العصبة التي تنتمي إلى ماركس، وانجلز ولينين، وستالين، وروزا لوكسمبورغ، وغيفارا وكاسترو، وهوشي منه، وخالد بكداش، وفرج الله الحلو، وكارل ليبكنخت، وأنجيلا ديفز، وستانيسلافسكي، وشارلي شابلن، واينشتاين، وميكيس تيودوراكيس، وناظم حكمت، وبابلو نيرودا، وجورج آمادو، ومكسيم غوركي، ولاباسيوناريا،.. ويرون أن الملكية الخاصة، وما تنتج من ثقافة وقيم هي أساس الداء، وأن الرأسمالية شر مطلق، وأن المركز الإمبريالي الغربي الأنغلو سكسوني هو تجسيدها الملموس في هذه المرحلة التاريخية من تطور البشرية، وعليه، فنحن نحترم ونقدر كل من يحاول لجم هذه المركز، ويقول له: لا...! وكوننا من وقود الأزمة السورية، ونظن بأن الحضور الروسي في الأزمة السورية، على الأقل يبقي على ما يمكن البناء عليه لاحقاً، رغماً عن الوحوش المنفلتة، وعدا ذلك، نعرف أيضاً_ بما أنعم الله علينا_ من بصيرة وديالكتيك، إلى أين يمضي تطور الأحداث في روسيا والعالم...، هذه حكايتنا مع روسيا أيها السادة.. ! لمن يريد أن يفهم!!
لماذا شيطنة روسيا؟
وإذا كان هناك من يصدق، بأن تصاعد الحملة المنسقة ضد روسيا، منذ انضمام القرم، واتهامها بالتأثير على الانتخابات الأمريكية، مروراً بقضية سكريبال، وكيماوي الغوطة، فتلك مشكلته هو، وليس لنا إلا أن ندعو له بأن يهديه الله... ومرة أخرى لمن يريد أن يفهم، نحن لنا رؤية أخرى.. إليكم الحكاية باختصار:
في قمة البريكس السنوية التي عُقدت في 5 أيلول 2017في شيامن. ألقى الرئيس الروسي بوتين كلمة أفصح من خلالها عن نظرة روسيا للعالم الاقتصادي الحالي. وقال: « تشاطر روسيا مخاوف دول البريكس من عدم عدالة الهيكل المالي والاقتصادي العالمي، الذي لا يولي الاهتمام الواجب للوزن المتنامي للاقتصادات الناشئة. ونحن على استعداد للعمل مع شركائنا لتعزيز الإصلاحات التنظيمية المالية والدولية، والتغلب على الهيمنة المفروضة على عدد من العملات الاحتياطية».
ماذا يعني ذلك؟
جوهر فكرة بوتين تكمن في كسر هيمنة الدولار في سوق العملات الدولي، ولأن الدولار كان الأداة الرئيسة للهيمنة الأمريكية على العالم، فإن الحديث عن كسر هذه الهيمنة، يعني أن الولايات المتحدة تعود إلى حجمها الطبيعي، بعد أن تضخم هذا الدور، بما يزيد عن إمكاناتها المادية الحقيقية، وهذا ما يعني بدوره: إقالة أمريكا عن عرش السيادة العالمية، وهو ما يتناقض مع المصالح المباشرة لقوى رأس المال ما فوق القومي عموماً، والأمريكي بالدرجة الأولى، وخصوصاً قوى رأس المال المالي، وبالعربي الفصيح: إن توجه روسيا الذي عبر عنه فلاديمير بوتين في كلمته يعني طرد الدولار، من آسيا.
بدأت الصين قبل أيام بإطلاق عقد مستقبلي للنفط الخام باليوان الصيني ويمكن تحويله إلى ذهب، بعد أن كانت الغالبية العظمى من قيمته تدفع بالدولار الأمريكي. وتشير المؤشرات الأولى لهذا التوجه بالقبول الواسع، فقد يصبح اليوان أهم مؤشر للنفط الخام في آسيا، نظراً لأن الصين أهم مستورد للنفط في العالم. ومن شأن ذلك أن يتحدى عقدي النفط القياسيين الذين يهيمن عليهما سوق المال الأمريكي، وهما عقد برنت في بحر الشمال وغرب تكساس»
ولأن الدولار ومنذ عقود يستمد قوته، من كونه المعادل النقدي الوحيد لسعر النفط في السوق العالمية، فإن ظهور عملة جديدة مزاحمة للدولار في هذه السوق، يمكن أن يحول تيرليونات الدولارات، في لحظة ما إلى مجرد أوراق لا قيمة لها، أو على الأقل يضع الاقتصاد الأمريكي تحت التهديد المباشر باستمرار.
في كتابه آلهة المال يقول الباحث الأمريكي وليام آندول، «العامل الوحيد الذي يحافظ على الدولار من الانهيار التام هو الجيش الأمريكي، ونشر واشنطن لمنظمات غير حكومية خادعة في جميع أنحاء العالم لتسهيل نهب الاقتصاد العالمي»
كان الرئيس بوتين قد أعلن، في خطابة أمام مجلس الاتحاد الروسي، عن جيل جديد من الأسلحة الروسية التي تستطيع روسيا من خلالها، حماية مصالحها أمام ما كان يسمى بالتفوق العسكري الأمريكي، بعبارة أخرى، ليعلن بذلك نهاية استخدام العسكرة في خدمة الثروة الوهمية الأمريكية..
إن الإجراء الصيني الاقتصادي_ المالي_ والإجراء الروسي العسكري، يعنيان: أن عناصر وأدوات تكون القطب الدولي الجديد الذي يرفض الاستفراد الأمريكي بالقرار الدولي، تكتمل وتتطور كل يوم، ومع كل خطوة للقطب الصاعد إلى الأمام، ويفقد القطب الآخر مواقع جديدة، ويفقد معها ما تبقى من صوابه، هنا تماماً يمكن معرفة السر وراء التوتر المتزايد في الوضع الدولي، فالتوتير والعربدة في هذه الحالة هما تعبير عن تراجع، أكثر مما يمكن اعتبارهما دلائل قوة.
الحلول السلمية مقتل الغرب
من الناحية الموضوعية لم يعد لدى دولة «مجلس الأمن القومي الأمريكي» أو ما نسميهم بقوى الحرب في الإدارة الأمريكية سوى محاولة إحراق العالم، عبر إشعال الحروب والنزاعات، فهذا الملعب هو الملعب الوحيد الذي يمكن أن يؤخر عملية الانهيار المحتوم، وإن كان لا يلغيه، ويمكن القول: أن إطفاء أية بؤرة توتر، يعني دق مسمار جديد في نعش المنظومة المستبدة والمهيمنة ككل، وهنا تماماً يكمن سر الهدوء، والثقة العالية بالنفس، التي تكتنف تصريحات ساسة ودبلوماسيي القطب الصاعد، ومن هنا بالذات إصرارهم على الالتزام بالقانون الدولي، وحل الصراعات بالطرق السلمية.
خيار الجنون
يحذر العديد من إمكانية لجوء قوى الحرب إلى خيار «عليّ وعلى أعدائي»، وإذا كان هذا التحذير مبرراً من الناحية النظرية، لا سيما وأن التجربة التاريخية للرأسمالية المأزومة، تقول: أنها أشعلت حربين عالميتيين في القرن الماضي، إلّا أن الإقدام على مثل هذه الخيارات المجنونة، من شأنه أن يخلق تناقضات جديدة سرعان ما تتحول إلى عامل إضافي في التراجع، وبالتالي إلى انهيار أكثر سرعة، وهو: التناقض بين قوى رأس المال نفسها، وتحديداً بين قوى الرأسمال المالي، ورأس المال الإنتاجي، وأصحاب الثروات الحقيقية، ويعني: أن قوى الحرب ستضطر إلى المزيد من استنزاف حلفائها الخُلَّص، لتمويل الحرب، أو توريطهم، وهذا ما يفسر ابتزاز ترامب لكل حلفائه بدون استثناء، على طريقة الفتوات، وجباة الضرائب، الذي أدى إلى انقسامات حادة داخل المنظومة الغربية نفسها، وبينها وبين توابعها من جهة أخرى، وداخل كل دولة من جهة ثالثة، إن لجوء قوى الفاشية الجديدة إلى توسيع رقعة الحرب، وإن كان سيؤدي إلى إزهاق كثير من الأرواح، وتدمير واسع للقوى المنتجة، إلّا أنه سيبلور في الوقت نفسه نقيضه الموضوعي، أي: قوى السلم العالمي، التي لن تشمل الدول الصاعدة وخياراتها فحسب، بل ستضم قوى واسعة من شعوب ونخب المراكز الرأسمالية الغربية نفسها، أي: أنه في الوقت نفسه سيلقي بقوى الحرب إلى خارج التاريخ....