الشمال الشرقي سباق ماراتوني وبغل عجوز
يتسع الجدل حول مستقبل المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد، في ظل الوجود العسكري الأمريكي، بالتنسيق مع تشكيل «قوات سورية الديمقراطية»، والإشارات المتعددة ببقاء مديد، وفي ظل تهديدات أردوغان المتواصلة باجتياح المنطقة تحت زعم محاربة الإرهاب، والقضاء على «الجيب الإرهابي».
وبغض النظر عن قدرة البيت الأبيض على تحقيق ما يبيّت له، من عدمها، فإن الموقف الأمريكي هنا، يعني جملة مسائل:
أولاً: تأكيد جديد على أن داعش لم تكن إلا فزّاعة أمريكية، وأن الحرب على الإرهاب كانت أداة لتبرير وجودها العسكري و»شرعنته»، وأن البديل الحقيقي للإرهاب في المنطق الأمريكي، هو: التواجد المباشر، الذي يعني الاحتلال بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ثانياً: إن الوظيفة الآنية الأساس، للوجود العسكري الأمريكي هي: ابتزاز القوى الأخرى الفاعلة في الميدان السوري، إما لعرقلة الحل السياسي الناجز، أو لفرض نفسها كرقم في المعادلة السورية، في ظروف تقدم العملية السياسية بعد التوافق الدولي والإقليمي على ضرورتها، لاسيما وأن السلوك الأمريكي، منذ التنصل من اتفاقية وقف الأعمال العدائية مع الجانب الروسي، دفع الولايات المتحدة عملياً خارج سياقات هذا الحل، دون أن ننسى إمكانية استخدام الولايات المتحدة هذه القوات لابتزاز الحليف التركي ومنع استكمال استدارته إلى الشرق.
ثالثاً: يعتبر بقاء الولايات المتحدة، أحد العراقيل القديمة_ الجديدة، أمام تنفيذ القرار 2254 الذي ينص على: إعادة السيادة السورية كاملة، والحفاظ على وحدة سورية واستقلالها.
رابعاً: إن الوجود الأمريكي، يتناقض موضوعياً، وعملياً مع نضال الشعب السوري من أجل التغيير الوطني الديمقراطي الجذري والشامل، الذي يعني بالإضافة إلى حق الشعب السوري في نظام سياسي جديد، يعني أيضاً: استعادة السيادة السورية كاملة غير منقوصة، وانسحاب القوات الأجنبية كلها من الأراضي السورية، وبالدرجة الأولى: القوات الأمريكية، وأنّ امتناع أية جهة عن ذلك يعني حق الشعب السوري المشروع في مقاومتها ومواجهتها، بالوسائل كلها.
تركية القلقة.. وداء «إلا الحماقة..»!
مر السلوك التركي في الأزمة السورية بمرحلتين:
أولاً: مرحلة ما قبل الانقلاب: حيث كان السعي التركي، إلى منطقة آمنة في الشمال السوري، برعاية تركية، عبر محاولات عديدة مكشوفة ومستترة، بدعم الجماعات المسلحة، ووصلت الحماقة الى إسقاط الطائرة الروسية التي انتهت إلى تراجع تركي مذل، واعتذار باللغة الروسية، ووفق الشرط الروسي.
ثانياً: مرحلة ما بعد الانقلاب: حيث وجد النظام التركي نفسه يتيماً بعد أن انقلب عليه الأب، وحاول أن يرسم له دوراً وظيفياً جديداً، تناقض مع «وهم القوة» التركية التي اكتسبتها من المرحلة السابقة، عندما كان وكيلاً حصرياً للغرب، والهوامش التي منحت له تحت راية ما سمي يوماً بـ «الإسلام المعتدل» فبدأ الشقاق في العائلة الواحدة، دون قدرة أي طرف منها على الانفكاك النهائي حتى الآن، بحكم مستوى التشابك التاريخي اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً وسياسياً، وإذا كان الطلاق السريع ممكناً في الجانب السياسي، إلا أنه في الجوانب الأخرى ليس بهذه السهولة، لاسيما وأن الطرف الأمريكي يحاول أن يستحوذ على «البيضة وقشرتها» متخلياً عن مصالح حلفائه بما فيها المصالح المباشرة للنخب الحاكمة.. لتدخل العلاقات الأمريكية_ التركية بين مد وجزر، بين توتر وتهدئة بالتناوب، وفي ظل دخول الطرف الروسي كعنصر فاعل في المعادلة الدولية، انفتحت الآفاق أمام النخبة التركية، لتلعب دوراً «مستقلاً» والسير باتجاه الانفكاك التدريجي، ولكن وكما يبدو ضمن المنطق السابق في العلاقات الدولية، حيث الهيمنة الأمريكية، فتستغل تركية، أو على الأقل قسماً من النخبة التركية الحاكمة للاستفادة من هوامش الصراع الروسي_ الأمريكي.. لتدخل بذلك في تناقض جديد مع الطرف الروسي، الذي يبني مشروعه على نسف المنظومة السابقة كلها، وضرورة حل الصراعات بالطرق السلمية، مما يعني كبح جماح الرعونة التركية وشغبها المزمن في الملفات الإقليمية من جهة، وفتح المجال أمامها لاستكمال استدارتها من جهة أخرى، والشفاء الكامل من «داء الحماقة» الذي يعتبر من أبرز سمات العقل السياسي التركي منذ ما يقارب قرن من الزمن.
قوات الحماية .. أو «الحالة التركية المعكوسة»
ظهرت قوات الحماية الكردية كرقم أساس في معادلة الأزمة السورية، بعد الدور البارز في الحرب على داعش، والتضحيات الكبيرة التي قدمتها في هذا السياق، وعلى الرغم من الموقف التاريخي لهذه القوات من الولايات المتحدة ودورها السلبي، الذي يستند على عمق أيديولوجي وسياسي، وعملي في ظل العلاقات المتميزة بين الغرب وتركية، العدو التاريخي لهذه القوات، على الرغم من ذلك كله، وجدت قوات الحماية نفسها في كنف الدعم الجوي الأمريكي لحربها على الإرهاب، لتتعمق هذه العلاقات مع تطور الأزمة السورية، وتجد هذه القوات نفسها في تناقض بين مواقفها التاريخية، وبين متطلبات الحرب على الإرهاب، مما وضعها في موقف لا تحسد عليه بين الضرورات الآنية والإستراتيجية، وضرورات تغيير شبكة تحالفاتها التاريخية، وإذا كان التزاوج بين هذه وتلك ممكناً حتى الآن، إلّا أن القضاء على داعش، وتقدم العملية السياسية يفرض على الجميع حسم خياراته نهائياً، وهي في حالة قوات الحماية تتطلب الإقلاع عن أية أوهام من الاستفادة من الوجود العسكري الأمريكي، لفرض أمرٍ واقعٍ ما، يخالف القرارات الدولية، وبالضد من إرادة السوريين، بما فيها أبناء المناطق الشمالية الشرقية، فأية أوهام من هذا النوع سترتد على أصحابها بالدرجة الأولى، وتجربة قوى المعارضة السورية «المغدورة» أمريكياً التي راهنت على الدور الأمريكي منذ 2011 وحالها البائس اليوم، يجب ألاّ يغيب عن ذهن كل من يتحلى بشيء من الحكمة والعقل، وهذه التجربة كافية كما نعتقد بأن يسمع حتى الطرشان توسلاتها اليومية.. وبعبارة أخرى فإن خطأ الرهان على الولايات المتحدة لم يعد اليوم مسألة سياسية_ أخلاقية، تتعلق بالوطنية والانتماء الوطني فقط، بل إن مثل هذا الرهان مرفوض من وجهة النظر البراغماتية الصرفة أيضاً، فهو كالرهان على بغل عجوز في هذا السباق الماراثوني الجاري في عالم اليوم، والذي أضاع الطريق باعتراف وشهادة قوى دولية واسعة، بما فيها قوى مؤثرة في الإدارة الأمريكية. وعلى كل حال، لا نظن أن الولايات المتحدة التي تتراجع في الساحات كلها، قادرة على منع الحل السياسي، وأن التصريحات المتعلقة ببقاء مديد على الأرض السورية، ليست إلا ورقة تفاوض، ومحاولة إثبات وجود، وتعكس في جانب منها جزءاً من التناقضات الداخلية في الإدارة الأمريكية، والصراع حول الخيارات اللاحقة لهذه الإدارة، التي لا تخرج من التخبط في ملف من الملفات، إلا لتدخل في تخبط آخر، ضمن سياق التراجع العام.
ومن هنا، فإن الموقع الطبيعي لتجربة قوى الإدارة الذاتية، يكمن بالضبط في الانخراط في العملية السياسية، التي تشكل مدخلاً لحل القضايا المستجدة والمزمنة كافة العامة، التي تتعلق بالحفاظ على وحدة سورية، وسيادتها وعملية التغيير والقضايا الخاصة، بما فيها حل المشكلة الكردية حلاً ديمقراطياً، ووضع حد نهائي للأطماع والأوهام التركية.
ومن الجدير بالذكر هنا، لم يعد يكفي الحديث عن الخطر الأمريكي، بل ينبغي على الجميع العمل على نسف أسس وجوده، وفي الحالة السورية فإن أي موقف جدي من الولايات المتحدة يكمن في الموقف من العملية السياسية الحقيقة على أساس القرار 2254.
دبلوماسية النفس الطويل
لا يوجد أي أساس منطقي لوضع إشارة مساواة بين الدور الروسي والدور الأمريكي، كما يحلو للبعض ترويجه وتسويقه، لا من الجانب الواقعي الملموس، بمعنى جدية الحرب على الإرهاب، وتحقيق نتائج ملموسة على الأرض، وتجنب تدمير البنى التحتية، ولا من جهة القانون الدولي.
فقد كان الدخول الروسي بطلب مباشر من الحكومة السورية، في حين التدخل الأمريكي، كان تدخل الأمر الواقع، واستثمار رخيص في خطر الإرهاب، وكان الدور الروسي لوظيفة محددة، وتحديداً الحرب على الجماعات الإرهابية الموصوفة، وبالتوازي مع جهد سياسي ودبلوماسي مع الأفرقاء كلهم، لاستئناف مفاوضات جنيف، التي ستتسع لكل القوى آجلاً أم عاجلاً، والمكتوب لها الانتصار الأكيد، بحكم التوازن الدولي الجديد الذي يتحكم باتجاه تطور الوضع، رغم التعقيدات والصعوبات والتناقضات القائمة كلها.