تركيا ـ مصر ـ السعودية: بين ظل أمريكا... ونفقها؟

تركيا ـ مصر ـ السعودية: بين ظل أمريكا... ونفقها؟

ثورتان في مصر، وإزاحة واجهتين من وجوه الحكم، فمحاولة انقلاب في تركيا، ثم انقلاب مبطن بل وشبه معلن في السعودية وهلمّ جرّاً... تهتز أركان الاستقرار القديم للأنظمة الإقليمية في منطقتنا، وتبدأ وستستمر عملية السعي إلى ولادة الجديد، في المنطقة الأكثر توتراً في العالم، والتي لم يهدأ الصراع فيها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.

(الشرق الأوسط) كما تسميه الأدبيات السياسية للمراكز الغربية، أصبح واحداً من أهم النقاط الجيوسياسية العالمية التي يتظهّر فيها الصراع العالمي، وميزان القوى الدولي، فمنذ أن أصبحت خريطة العالم بالنسبة للغرب، أكثر من مناطق تقاسيم نفوذ بين قوى الإمبريالية، وأصبحت مضطرة للتعامل مع وجود البديل السوفييتي، أصبحت منطقتنا في قلب الصراع: جغرافياً وسط العالم، واقتصادياً خزان نفط هائل في عصر هيمنة الدولار العالمي، الذي انتشر متكئاً على قوة الذهب الأسود المتفجر في المنطقة، كما اتكأ على السلاح والمؤسسات الاقتصادية الأمريكية بعد الحرب.
في ظل أمريكا بعد الحرب!
منذ ذلك الوقت سعت الإمبريالية العالمية متمثلة بمركزها الأمريكي، لتوطد أركاناً في الأنظمة الإقليمية في المنطقة، فعدا عن تشكيل الكيان الصهيوني كقاعدة عسكرية متقدمة، أمسكت الولايات المتحدة ركيزة الدولة التركية، أي: جيشها، ونقلت نظامها السياسي من انقلاب إلى انقلاب، وثبتت جيش تركيا الأطلسي الكبير، وعززت دور قوى المال العالمي الأسود في تركيا، وتركت بؤرة متقدة للتوتير في القضية الكردية التي تعتبر تركيا مركزها.
كما أسست لممالك النفط المرتبطة عضوياً بالمركز الغربي العالمي، وأبقت تناقضاتها والتوازنات بداخلها مغلفةً بنظام سياسي استثنائي لحكم نخب عائلية تصب مالها في الغرب. وصب الامبرياليون جام غضبهم على مصر فكان العدوان الثلاثي ثم عبر الكيان الصهيوني عام 1967، إلى أن وصلت في السبعينيات إلى سحب قدرة مصر على المقاومة، وابتلعتها بجهود المؤسسات المالية الأمريكية ووصفات صندوق النقد السياسية والاقتصادية، العملية شكلت النخب الاقتصادية والسياسية التابعة التي أوصلت مصر إلى فتح (سفارة إسرائيلية).
وفي كل الأنظمة الإقليمية المدعومة والتابعة للمركز الأمريكي، كانت السمة واحدة: دور إقليمي تصعيدي يفيد التوتير، ونخب مالية مرتبطة ارتباطاً عميقاً بالغرب تنهب بالوكالة عنه، ومستوىً عالٍ من القمع (وإن كان متفاوتاً بين هذ الدول)، وهو الأداة الضرورية لاستمرار أنظمة مشوّهة ومرتبطة، ترهن مصائر دول هامة وذات أبعاد إقليمية، وملايين من شعوب المنطقة، للقرار الذي مصدره واشنطن.
ولكن ما مصير هذا كله عندما تهتز أركان واشنطن ذاتها؟!
في نفق الأزمة الرأسمالية!
الأنظمة التي تشكلّت وتعززت أركان حكمها في ظل موجة الصعود الغربية عقب الحرب العالمية الثانية، وحتى ذروة السيطرة الأمريكية العالمية في التسعينيات، تتخبط وحيدة باحثة عن طوق نجاة، وعن مرسى جديد وسط عالم اليوم المتغير سريعاً...ولكن باتجاه محدد: أزمة رأسمالية عالمية وحركة شعبية سياسية واسعة_ تراجع أمريكي محتوم وانقسام أمريكي عميق_ فرص مفتوحة من الشرق، وإرساء أسس لنمط تعاوني اقتصادي_ سياسي جديد مركزه الصين وروسيا.
أتت الثورات المصرية لتعبّر عن مستوى عالٍ من عدم الرضى الاجتماعي في مصر، وأن النظام المتشكل من السبعينيات لم يعد قابلاً للحياة، فسارعت قوى المركز الغربي، للمحافظة على النظام (بإسقاطه) والإبقاء على ركائزه، والعملية مستمرة حتى اليوم في محاولة الغرب ضمان السلطات المصرية، برهنها لقروض صندوق النقد، وبالتلويح (بالتصعيد الإرهابي) في مصر. ولكن مقابل هذا، فإن الغرب لم يعد يستطيع أن يقدم للمنظومة السياسية المصرية إلا المزيد من الأزمات، وهو أمر ينبغي أن يتفاعل مع الضغط الاجتماعي الهائل للحراك الشعبي في مصر، الذي استطاعت المنظومة السياسية أن تلتف عليه مرتين، وتبقى مصر غارقة في أوضاعها الاقتصادية والأمنية.
نظام (العدالة والتنمية) التركي المدعوم من الغرب والذي رفعته سياسياً تدفقات المال الغربي، منجذبة لمعدل ربح مرتفع في تركيا، والذي انخرط في التوتير في المنطقة (بفعالية عالية)... تلقف المتغيرات الدولية، ودفعته إدارة توازناته الداخلية، للتجرؤ على شكل المنظومة السياسية التركية الغربي حيث للجيش دور انقلابي غربي حاسم، ثم أن يفتح بوابات اقتصادية على روسيا. فكانت النتيجة محاولة الغرب أن ينقلب على حليفه السابق، ويستعيد تركيا عبر انقلاب. ولكنها كانت المرة الأولى منذ عقود التي يفشل فيها الأمريكان في تركيا، لتتسارع بعدها ظواهر: التباعد التركي_ الأمريكي، والتقارب التركي_ الروسي. وما ينجم عن هذا من تغير في دور تركيا التصعيدي في المنطقة باتجاه تخفيفه أولاً، وتحويله إلى دور إيجابي بشكل تدريجي.
أما المملكة العربية السعودية، حيث تأخذ التغيرات (شكلاً درامياً) ولكن ليس مفاجئاً كما يقول البعض. فالمملكة الأكثر ارتباطاً بالمنظومة الاقتصادية الأمريكية، وحيث تتشابك بعمق أموال المليارديرية والنخب السياسية مع المنظومة المالية الغربية، انقسمت نخبها السياسية والاقتصادية، دون أن ينفصل هذا عن انقسام النخبة الأمريكية. ووصل هذا الانقسام إلى (الاعتقال الفندقي) لنخب وأمراء ورجال أعمال، في عملية تلغي نفوذاً سياسياً لبعض الوكلاء، وتعزز النفوذ والهيمنة والثروات المتاحة لوكلاء أقل.
ولا يمكن قراءة ما يجري، إلا بعملية احتواء طرف أمريكي للأزمة السياسية الحتمية في المنظومة السعودية، وإعادة تهيئة النظام السعودي ومركزة وكلائه. ويأتي هذا على ما يبدو في وجه مسعى طرف أمريكي آخر إلى إيصال السعودية إلى الفوضى وحتى الانقسام، فبالنسبة لهؤلاء سعودية مشرذمة ومتراجعة بسرعة بل وربما بعنف، أفضل من سعودية متماسكة نسبياً، ومدارة بغير وكلائهم ورجالاتهم المحددين، ومعرضة للتغيرات والتحولات والفرص العاصفة في الشرق، والتي وصلت إلى حد الحديث عن تعاون نفطي مع الصين بعملة غير الدولار!
ما يجري من عملية إدارة التراجع في السعودية المهزومة سياسياً، مفتوح على الاحتمالات كلها، وسط الصراع الأمريكي العميق المتجلي في السعودية، ولكن الأكيد: أن النظام السعودي كغيره، يتشكل في جو عالمي، أساسه أميركا ودولار متراجع، وشرق متقدم منفتح على السعودية وغيرها، والأهم: أنه يسعى لمنع الحرب عموماً، وفي منطقتنا تحديداً.
تركيا والسعودية ومصر نماذج فقط عن مصائر الأنظمة الإقليمية الهامة ذات الموارد والشعوب والقدرات التي تشكلت منظومتها السياسية، وفق التفصيل الأمريكي خلال العقود الماضية... مصائر تقول: إن هذه الأنظمة مهترئة، ويعاد تشكيلها بفعل التغيرات العالمية العاصفة، وميزان القوى الدولي الجديد. فإن كانت الموجات الأولى من عاصفة التغيرات أشارت إلى أن هذه الأنظمة مهزوزة وبحاجة إلى التغيير، للتكيف مع واقع تراجع المركز الأمريكي الذي كان يعطيها وزنها وتماسكها. فإن الموجة الثانية من التغيرات ستفرض تكيفاً مع ميزان جديد، عندما تفرض الشعوب سلطة حاجاتها، وتهز أركان نظام النخب العالمي، وعندها لن يكون التابعون لأمريكا فقط عرضة للتغيرات، بل أنظمة العالم القديم كلها على حد سواء...

معلومات إضافية

العدد رقم:
836