إنها تسقط... فلا تفكروا بعقليتها

إنها تسقط... فلا تفكروا بعقليتها

لا تكاد القوى السياسية المختلفة والمتقاتلة في المنطقة تترك محفلاً يفلت من بين أيديها إلا وتردِّد فيه على أسماعنا- وعلامات الابتهاج الساذج بادية على وجوه محلليها: لقد ولَّى زمن «سايكس- بيكو»، وحدودها البائدة قد آلت إلى وهمٍ على وقع متغيرات الميدان العسكري.

لا شك أن سايكس بيكو هي اتفاقية انتهى عمرها الافتراضي منذ زمن، وليست قيداً أبدياً فُرض على شعوب المنطقة، وكذلك الحال بالنسبة للحدود التي أنتجتها بين الدول. لكن ما ينبغي الوقوف عنده مطولاً هو الحقيقة التي يتغافل عنها المحللون المذكورون آنفاً، وهي شقان: أولهما أن الاتفاقية قد سقطت موضوعياً منذ تغير موازين القوى الدولية، وتراجع وزن الولايات المتحدة التي استندت في سياسات مرحلة هيمنتها العالمية على الإرث الاستعماري السابق للإمبرياليتين البريطانية والفرنسية. وثانيهما: أن سقوط سايكس بيكو ليس سقوطاً لها وحدها، بل سقوطاً للعقلية وللبنى السياسية وللنمط القائم من الخلافات والتنافس الذي غذته هذه الاتفاقية.
وجهان لمسارٍ واحد
ثمة في الأوساط السياسية اليوم من يتحدث عن حقيقة انتهاء مفعول سايكس بيكو ليبني على أساسها استنتاجات وطروحات لا تخرج هي ذاتها عن منطق سايكس بيكو. حيث هنالك من يعتقد أن انتهاء التقسيم الحدودي الذي فرضته القوى الاستعمارية سيفتح الباب أمام تحالفات وربما اتحادات ضيقة لتكوين تكتلات إقليمية قادرة على المنافسة. لكن المنافسة في أي إطار؟ في الواقع، يدور الحديث هنا عن التجاذبات التي خلَّفتها سايكس بيكو ذاتها، وكأن حكم الموت يسري على الاتفاقية لكن لا يسري على مفرزاتها..!
وعلى المقلب ذاته ولو اختلف من حيث الشكل، تجد أيضاً مِن القوى السياسية مَن يُهلِّل لسقوط الاتفاقية وقد أخذته الأوهام بأن سقوطها سيفسح المجال أمام مزيدٍ من التفتيت والتقسيم، غافلاً أو متغافلاً عن أن كلاً من التفتيت والتقسيم هي أدوات القوى الاستعمارية، وإعادة إنتاجهما مشروطة بإعادة إنعاش القوى الاستعمارية الدولية التي ينهار وزنها النوعي، ما يجعل من هذه العملية برمتها عبثاً خالصاً ومضيعة للوقت وللجهد الذي يجب أن ينصب في مكانٍ آخر.
شرط الجديد ومعادلته
عندما تتداعى قوة استعمارية يتداعى معها كل ما هو قابل للموت من سياساتها ومفرزاتها. والقول الحق بأن من يتداعى اليوم هي الإمبراطورية الأمريكية وحلفاؤها في الغرب والشرق، يستلزم الإقرار بأن منطق الخلافات التي عممتها هذه الإمبراطورية في منطقتنا يتداعى أيضاً، حاملاً معه القوى السياسية العاجزة عن التكيف والعمل بعقلية الواقع الجديد إلى الهاوية.
عقلية الواقع الجديد هذا تشترط إدراك المعادلة: إذا كان التفتيت هو مشروع القوى المتراجعة عالمياً، فإن التكامل هو مشروع القوى الصاعدة اليوم، روسيا والصين وحلفائهما، وهذا التكامل –الذي يحمل المنفعة للشعوب والدول وبناها التحتية- أكبر من حدود منطقتنا وتجاذباتها القديمة. وبالتالي، لا مكان للتفتيت والتقسيم، كما لا مكان للتحالفات الضيقة وفق الرسمة القديمة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
816