«يا هذا».. لاتشح وجهك عني!
«لقد ذعرتم، وسُرق النوم من عيونكم عندما علمتم بنيتنا التعاون مع الولايات المتحدة (على المسار السوري)، وهذا أمر تخشونه. أنتم تفعلون كل ما في وسعكم لإجهاض هذا التعاون. انظر إلي، ولا تشح نظرك عني يا هذا، لا تهرب بنظراتك بعيداً، إياك أن تجرؤ على محاولة إهانة روسيا».
بهذه الجمل، استطاع المايسترو الروسي أن يضبط إيقاع جلسة مجلس الأمن الخاصة بالتصويت على مشروع القرار الإنكليزي- الفرنسي- الأمريكي، عندما ردَّ على المندوب الإنكليزي، ومعه كل الأصوات، التي بدت في حالة استنفار، وكأنها بصدد إعلان قيام الساعة، واستطاع أن يعيد إلى الجلسة حالة التوازن، التي يفترض أن تتوفر في أهم مؤسسة دولية، منوط بها قضية الدفاع عن القانون الدولي، والحفاظ على السلام العالمي.
أول ما يمكن تثبيته وتأكيده من قدرة الدبلوماسي الروسي على تأريض زخم دعاية قوى الحرب من العجم والعرب و...، أنها ليست مجرد معركة عابرة، أو حالة استثنائية، بل هي تعبير عن حقيقة، وهي: أن زمن اعتبار هذا المنتدى الدولي، مجرد محكمة أمريكية- غربية تطلق فيها الاتهامات المبيّتة لشرعنة وقوننة وتبرير ما يدور في العقل العسكري الاستخباراتي الغربي قد ولّى..
السؤال الآن: ما الذي منح كل هذه الحيوية، والقدرة على الإقناع والتأثير للدبلوماسي الروسي، ولماذا بدا «يا هذا..» مندوب بريطانية العظمى، على هذه الدرجة من العجز، وهو سليل مدرسة دبلوماسية- سياسية تتميز عبر التاريخ بالحنكة والدهاء، ومدجج بترسانة من حاملات الطائرات، وبنوك شراء الذمم، والدول والحكومات والدبلوماسيين، وجيش من الكتبة والأتباع والإعلاميين، والمريدين، والمصفقين في أصقاع الأرض كلها، وتعتبر جزءاً من ثالوث طالما كان يأمر وينهي في هذا الملف الدولي أو ذاك، ومدعوم بمن يريد إعادة أمجاد «أمريكا العظيمة».
تتعدد القراءات المتعلقة برد مندوب الاتحاد الروسي على «مندوب بريطانيا العظمى» في أهم منبر دولي، وعلى الهواء مباشرةً، وبكل اللغات الحية والميته، وأثناء بحث قضية تعتبر أحد أهم خطوط التماس في الصراع الدولي الراهن، وفي ظل حالة طوارئ إعلامية دولية منسقة ومنظمة، مرافقة للجلسة الخاصة ببحث مشروع القرار «الفرنسي- الإنكليزي- الأمريكي» عن استخدام السلاح الكيمياوي في خان شيخون السورية، ومن أوجه السذاجة في هذه القراءات الاقتصار في تفسير هذه «البهدلة» إلى ميزات شخصية يتصف بها المندوب الروسي، أو إلى ضعف قدرات المندوب الإنكليزي، رغم جلاء هذه وتلك، فالمعركة لم تكن مجرد معركة استعراضية، ومناكفة بين شخصين، بقدر ما كانت مواجهةً بين خيارين في منظومة العلاقات الدولية، نعبر عنه باللغة السياسية: التوازن الدولي الجديد، ووزن كل بلد، ودوره، على الخريطة الجيوسياسية، وهي بالإضافة إلى ذلك، مواجهة بين نموذجين من الثقافة، النموذج الثقافي الغربي الرأسمالي، القائم على ثنائي: الهيمنة، والذرائعية (الغاية تبرر الوسيلة)، وما تستوجبه من الاستعلاء، وإقصاء الآخر، والثقافة الروسية التي تعتمد على الملموس والواقعي، والاستماع إلى الآخر، بين ثقافة حق «القوي» في اتخاذ القرار، وإطلاق أحكام أحادية الجانب، وثقافة الفهم المشترك للظواهر، بين ثقافة التلفيق، وثقافة التحقيق، ثقافة التردد والتوتر المفضوح، وثقافة التحدي والثقة بالنفس، اعتماداً على قوة الحجة وسلامة المنطق، ثقافة الوقائع العقلانية، وثقافة تجييش العواطف، التي سرعان ما تُنسى أمام أية صفقة سلاح تزيد من أرباح شركة من الشركات.
عبارة «يا هذا...» وفق صيغة سكرونكوف، بما تحمله من معاني الاستخفاف والتحقير، هي رد العالم الجديد الذي يتشكل، على العالم القديم الذي يتماوت... يا هذا هي نداء قوى العالم الجديد...
كم من الجهات والقوى يجب أن نلقي على مسامعهم هذه العبارة؟
يا هذا... لاتشح نظرك عن الحقيقة، واعلم أن الحل السياسي قادم!
يا هذا... الجم هذا اللسان، وكف عن الهراء الطائفي والديني والقومي!
يا هذا... الثورة ليست زعيقاً، وصراخاً، وتمويلاً، وارتزاقاً، ومؤتمرات صحفية، واستعراضاً إعلامياً، ولم تمنحك الآلهة شهادة حصريةً بتمثيل الشعب السوري.
يا هذا... الوطنية، لا تعني بالضرورة الوقوف إلى جانب النظام، الوطنية ليست جغرافيا وخرائط مرسومة على الورق... وشهادات الوطنية، وحسن السيرة والسلوك، ليست ملكك حتى تمنحها لأحد، أو تحجبها عن أحد... ويا هذا ... ويا هذا !
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 807