عيسى المهنا عيسى المهنا

حراك شعبي .. وسفارات خمس

وردت الى قاسيون هذه المادة، والتي تأتي كإحدى القراءات عن الازمة الوطنية الراهنة، وهي تُنشر بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع بعض ما ورد في المتن.

 

 



يحكم الواقع العربي هذه الأيام عاملان مفروضان متلازمان مرتبطان بالتغيرات العالمية وتعقيداتها السياسية والاقتصادية دون إهمال للعامل الأهم الثقافي: الأول صراع المصالح العالمية الكبرى،الثاني واقع الحال المحلي السياسي والاقتصادي والاجتماعي الضاغط في البلاد العربية كافة دون استثناء.
أُنتج هذا الواقع تاريخياً بعد الاستقلال مباشرة حيث ساد مناخ طبيعته قومية ويسارية تقوده سياسات لبت في حينها جزءاً كبيراً من متطلبات شعوبها تحت مسمى تحرر وديمقراطية، ضمن توازن مصالح الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، شرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي وغربية بقيادة الولايات المتحدة، تقاسمت غنائم الحرب نفوذاً ومناطق (إستراتيجية) ترافقت مع صراعات ساخنة بين القوتين لتفريغ شحنة الصراع بينهما في مواقع مختلفة من العالم (كوبا فيتنام أفغانستان…). وتبلور الواقع العالمي كنموذج سياسي pattern   political – يخص كل طرف مطبقاً قاعدة (المركز- الأطراف) – في شروطٍ ووسائل وأنظمة فارضاً على البلد التابع نموذجاً ثانوياً يدعم ويخدم إحدى القوتين بغض النظر عن طبيعة الحكم الداخلية أكانت دكتاتورية أو ديمقراطية ،ملكية أو جمهورية…ظهر بذلك توازن جديد انعكس أثره على بلدان الطرف الثالث التابع فكان صعوداً وهبوطاً مرتبطاً بقوة الطرفين أو ضعفهما أو تفوق أحدهما على الآخر،فمر الصراع في مراحل مختلفة أبرزها:
الفترة الذهبية: بعد الحرب مباشرة التي امتدت إلى بداية الستينيات حيث منحت دول العالم الثالث مساحة حركة اقتصادية اجتماعية سياسية تعتبر الأوسع في تاريخ الصراع (شرق-غرب) ترافقت مع استقرار اجتماعي واقتصادي نسبي لهذه الدول في القارات الخمس مع بعض الاستثناءات،ومازال معاصرو تلك الفترة يتغنون بها حتى اليوم.
فترة استعادة القوة: استطاع المعسكر الغربي بعد فترة الترنح أن يستعيد قوته ويطلق مشاريعه التي رحّل بها كميات كبيرة من قوة العمل لخدمة مجتمعاته على حساب الطرف الأضعف (دول العالم الثالث).
فترة انهيار إحدى القوتين: انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1989 واستفراد واستباحة المشروع الأمريكي للساحة العالمية بكل برامجه وطموحاته المترافقة مع أزمته الاقتصادية والسياسية.(يعتبر انهيار الاتحاد السوفيتي جزءاً من ارتدادات الأزمة) ممهداً الطريق لصراع جديد غربي إسلاموي Islamism ظهر بأقصاه في أحداث 11 أيلول 2001 .

كان انعكاس هذه المراحل الثلاث واضحاً في بلدان العالم الثالث ومؤثراً فيها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي فمرت في:
• مرحلة الحريات والديمقراطيات المترافقة مع انقلابات عسكرية وعدم استقرار سياسي.
• مرحلة سيادة الديكتاتوريات الملكية والجمهورية وتثبيت الحكم1.
• مرحلة الاحتقان الناتج عن تغييب العامة من الناس في أداء دورها الاجتماعي والاقتصادي وسيطرة الفساد والقمع والنهب الممنهج.
• مرحلة الانفجار العربي الكبير مختصراً بمشهد اليوم الذي انطلق من تونس مروراً بكل من مصر وليبيا واليمن والبحرين وصولاً إلى سورية 15/3/2011.

ارتبط ما شهدته هذه البلدان اليوم من هزات سياسية ارتباطاً وثيقاً بنهاية نموذج اقتصادي سياسي وبداية أخر رسمت ملامح شكله التغيرات الملحة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وحتى السياسي الناتجة أصلا عن جملة انهيارات رافقت المراحل السابقة عبر عقود عدة منها انهيار منظومة القيم التقليدية كجزء من نموذج المرحلة stage model .والتي ترافقت مع نشوء نخب اقتصادية واجتماعية سياسية طارئة على المجتمع، فُرضت عليه ولم تستطع التعامل مع متغيراته ومتطلباته الفردية والوطنية، أمسكت بمفاتيح وعناصر القوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأهم ..الأمنية التي حكمت المنظومات الثلاث باتجاهين: الأول الحفاظ على البنيان الناشئ للدولة، والثاني الحفاظ على مصالح القائمين عليها مع مراعاة جزء اعتبرته ضرورياً لاستمرارها عبر تحقيق بعض من مصالح العامة مترافقاً مع تطوير مستمر لوسائل مصالحها الفردية والشخصية والمادية ( أنتج القطاع  العام خلالها العديد من أصحاب المليارات دولارياً).

وَلّد الفرق بين إمكانيات الدولة ومكاسبها منظومة جديدة هي منظومة الفساد الاقتصادي التي نفذت سياسياً واجتماعياً ففككت البنيان التقليدي للمجتمع وخلقت آخر بأخلاقيات جديدة تمثلت في سلطة السوق   it is marketplace2 وهو ما أسس لخلل بين قواه المنتجة وعلاقات إنتاجه… فأثر في بنية دولة النموذج السابق، وانعكس اختلالاً لعلاقة رأس الهرم مع قاعدته مما ولد رد فعل جدي ومفصلي من القاعدة باتجاه رأسه نتج عنه انفجارٌ، فكان سقوطاً في تونس ومصر، فاجأ حتى الحلفاء التاريخيين، وتدخلاً عسكرياً مباشراً فاضحاً في ليبيا لصالح القوى الكبرى، وتحركاً خليجياً في البحرين واليمن خوفاً من تمدد الحراك لباقي دوله، أما في سورية رغم تشابه الوضع الداخلي مع معظم البلاد العربية ودول العالم الثالث إلا أن الحدث أخذ بعداً إقليمياً ودولياً ضاغطاً – بسبب سياسات سورية الخارجية وتحالفاتها الإستراتيجية وحاجة القوى الإقليمية (معظمها عربية) لإزاحتها كعائق رئيسي في وجه نموذجهم القادم المهدد بتغير استراتيجي معاكس لمصالح القوى المسيطرة على المنطقة تاريخياً- ترافق مع تحركات شعبية على الأرض،وأمام تسارعه وحدته وواقعية مطالبه…كانت الاستجابة لهذا التحول من أعلى الهرم بسرعة وجدية، فتراجعت ردات فعل القاعدة بناء على خطوتين أساسيتين الأولى، حجم التنازلات التي قُدمت لتدارك حتمية المصير في حال التمسك بالنموذج السابق، الثانية، استجابة مساحات واسعة من المعترضين والمتضررين لهذا التجاوب وإدراكهم لتحقيق مكاسب سياسية واسعة على حساب صلاحيات كانت مطلقة وبالتالي تراجعت حدة احتجاجاتهم ودخلوا من نافذة السياسة التي اجبروا النموذج القديم على فتحها.مما أدى لتعقيد جديد في تركيبة وهيكلية الصراع السياسي في سورية، فبعد أن كان رأساً وقاعدة أصبح بين أطراف متعددة، ما أخرج جزءاً كبيراً من المحتجين في الميدان أصحاب الخيار السياسي وان كان بالواسطة وبقي جزء أخر منهم يصر على فرض نموذجه غير المتبلور أساساً مما أدى إلى صراع مع السلطة بدايته (سلمية؟؟) واليوم دموية أفرز ما يسمى القوة البربرية بالميدانHagarism3(بدايتها الهجوم على مركز الأمن العسكري في نوى)،ضاعت معها رومانسية الحراك الشعبي وأهدافه. مترافقا مع وضع مطالبه المحقة بإطار ديني إسلاموي متطرف معتمداً يوم الجمعة توقيتاً كرسه تسميات جمعاتها جمعة الله أكبر وجمعة الحرائر وجمعة العشائر وجمعة الجهاد وجمعة؟؟؟ وشعاراتها بين بيروتها وتابوتها وسيفها وكيفها، وأعلامها السوداء والخضراء،وكتائبها كمعاوية وخالد ابن الوليد،ذو النورين، الفاروق،وخولة بنت الأزور…هو ما عكس حجم الأصولية الدينية المترافق مع انكفاء اليسار تمثيلاً وبرامج. – هذا وتعود بداية الاعتراف غير المباشر بالمد الديني إلى لحظة إعلان علم العراق الجديد بإضافة الله اكبر (حرب الخليج الأولى)،وبعدها بسنوات رافقت كلمات سورية الله حاميها العلم السوري، عندها انتقل اليسار المدني لمناجاة الله والاقتراب منه حفاظاً على بقائه لإدراكه لحجم المد الديني المترافق مع انهيار الأحلام في بنى المجتمع وشرائحه كافة.-

بلور الحدث السياسي الموضوعي حجم العداء التاريخي الخارجي وبعض الداخلي للنموذج التقليدي في سورية المترافق مع غياب الأحزاب الفاعلة والرؤى الإستراتيجية والبرامج الداخلية خلال العقود الماضية… فاتفق معظم المتبقي على ضرب النموذج وبأي ثمن فكانت لحظة اللقاء الحدي التي جمعت بين اليساري بأقصاه مع اليميني بأقصاه ونشأ ما يسمى اليسار الوهابيleft wahhabisim الذي أتقن أدوات اليسار بعنف اليمين لغاية واحدة هي إسقاط النظام، مع تجاهله أو عدم إدراكه لمخاطر سقوط الدولة الملتصقة بالنظام، وتبلورت مرحلة الكيدية السياسية الثأرية على حساب المصلحة الوطنية العليا وكانت الكلمة في كثير من المناطق السورية للقوى المتشنجة – أغلبها أصولية أو ذات مرجعية دينية- مع مجموعة كبيرة من الخارجين عن القانون والمتضررين السابقين… خيارات أحرجت شرائح واسعة من الحراك بسبب قصر نظر حوامله البشرية وحجم الكيدية السياسية، مما أدى إلى نشوء حالة تمايز مناطقي وسلطوي وانقسم المجتمع على مدنيته التي يبدو أنها لم تتبلور بل عاد لشكله البدائي قبائل وعشائر ومناطق وعائلات وفي مرحلة متقدمة من الصراع انتقل إلى مذهبي ومن ثم طائفي بامتياز كما في حمص ومحيطها ،مما حتم التراجع ثم تلاشي الحراك. تزايد بالمقابل حجم التدخل الخارجي في الشأن السوري عربياً وإقليمياً ودولياً. والتقى هدف إسقاط النظام مع دول لها حساباتها ومصالحها وكيديتها لتنفيذ الممكن وتحقيق أكبر مكاسب متاحة وصولاً لشرق أوسط جديد معلن منذ حرب تموز عام 2006 على حساب شرق أوسط صلب بدأت ملامحه بالتبلور مؤخراً.

تشابهت مراحل ولادة النموذج الجديد بين البلاد العربية المعلن عنها إعلامياً وغير المعلن عنها (السعودية قطر الأردن…) فانحرفت الأهداف عن حاجات وتمنيات معظم القوى في المنزل والشارع، وترافقت مع تدخلات لقوى مختلفة سارعت للملمة خسائرها عبر من يمكن مساومتهم من قلب الحدث للحفاظ على مصالحها فكان الدعم الميداني الإعلامي والسياسي والأهم المالي في الانتخابات التي جرت في مناطق الحراك فنتج عنها اكتساح القوى الإسلاموية للبرلمانات المدعومة بمليارات الدولارات السعودية ومنها حزب النور السلفي المصري الذي أظهر حسن نيته تجاه إسرائيل فور فوزه6.وعادت من يعاديه ووقفت في وجه القوى الوطنية مستخدمة ضدها سلاح التكفير والجزية7والنقاب وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر8. وحيدت العداء التاريخي العربي الإسرائيلي وفرزت الصراعات الداخلية بين القوى الاجتماعية في البلد الواحد وأظهرت العداء ضد أقباط مصر بدموية لافتة، بقتل متنقل على الأرض وخطف لبناتهم في مناطقهم، أدى لهجرة 100 ألف قبطي بعد الحراك المصري مباشرة وانتظار 100 ألف آخرين على أبواب الهجرة9وبدأ كلام عن تقسيم مصر دينياً بأدوات كلفتها محلية من دماء  أهلها تخدم بقاء دولة إسرائيل(كدولة دينية) ومن بعدها بقاء أمريكا10.

وتماثلت الحالة في سورية بأدوات  أكثر عصرية عبر  إقرار  دستور ينفصم شكله عن مدنية الدولة بعد أن تم إقرار المادة الثالثة منه عبر لجنة بربطات عنق مدنية إسلاموية بامتياز فكان دستوراً فئوياً مهملاً حقاً أساسياً لسكان البلاد الأصليين…مكرساً بذلك فرض دولة دينية في ظرف مستقبلي موات محتمل11.

تصدرالقرضاوي وهيلاري كلنتون الحراك الشعبي في الساحات وتربع الإسلام المروض في البرلمانات المغربية والمصرية والتونسية12 كضرورة أمريكية إسرائيلية13في وجه القوى  الوطنية مستفيداً من غطائها المادي والسياسي عبر ما سوق له نموذج حزب العدالة والتنمية التركي14 وأبقي على السفارات الإسرائيلية في مصر والأردن وموريتانيا وتم تثبيت مكاتبها في الخليج والمغرب، وولادة سفارة في كل من جنوب السودان15وليبيا16 التي قدمت 130ألف قتيل وجريح.

فرز الحدث العلاقة العكسية بين سرعته وتطوره وخطورته وبين قدرة الميدان في التعامل معه على المستوى الوطني مما أدى لتخلف كثيرين عن مجاراته سياسياً واستراتيجيا فتراجعت وانكفأت الحراكات الشعبية العربية بعد مرور أكثر من عام مع نهاية ميدانية لأي شكل من أشكال التحرك السلمي،المترافق مع سيطرة الجماعات الدينية على الحياة السياسية عنفا او في البرلمانات بمباركات دولية أو عبر الدساتير .وهو ما هيأ الأرضيات الميدانية لإنشاء دويلات دينية في مصر واليمن والسعودية وسورية…وبالتالي تغير في اتجاه الصراع إلى داخلي/داخلي وتغييب لقضية الصراع الأساسية فلسطين التي لا غنى عنها وجودياً دون أن تستغل كرامة المواطنين داخلياً في النموذج السياسي الجديد القادم.

 

• كاتب من سورية


مراجع :
1- محاضرات في التخطيط العام ،دورة 1988-2000،معهد التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بدمشق،هيئة تخطيط الدولة .
2- هانس بيتر مارتين،هارلد شومان،فخ العولمة ،سلسلة عالم المعرفة،عدد 295،أغسطس 2003،ص303.
3- القوة البربرية:هي تلك القوة الغرائزية الهائلة لشعب فتي والتي لم تصل إلى حدود التعقلن؛ لذلك فإن عدم تقليمها عقلانياً يمكن أن يودي إلى فعل دمار. مرجع: نبيل فياض،الصهيونية الإسلاميّة العرعور إنموذجاً.
http://ar-ar.facebook.com/note.php?note_id=345866852109217
4-  وزيرة الخارجية الأمريكية تموز 2006.
5- الشرق الأوسط الصلب نواته سورية العراق إيران إلى الصين. موقع الجمل بما حمل- قسم الدراسات.
6- ما ورد في الإعلام عن لقاء لأحد رموز حزب النور الإسلامي مع إذاعة جيش الدفاع الإسرائيلي كوثيقة دامغة حول ذلك. مرجع سابق، الصهيونية الإسلامية .
7- البرافدا الروسية،جزية الدم على أقباط مصر، 14 يناير 2012 .
http://www.aswatmasriya.com/roundups/view.aspx?id=3d5e18d7-abaf-4da6-ab76-4e2fe86ba819
8- البيان الأول لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مصر،الأربعاء 28ديسمبير2011،الرياض، ياسر الشاذلي ،القاهرة الحياة.
http://ksa.daralhayat.com/ksaarticle/344328
9- حيث زادت وتائر خطف الفتيات القبطيات في مصر بسن 14-18سنة وتصور على انها تزوجت من مسلم ويبث الفيديو الذي يكون أرضية ممتازة لصدامات أغلبها دموية.    المصدر ،مؤتمر،دور المرأة في الحوار الإسلامي المسيحي غاردن هوتل، برمانة، لبنان  بين10 -14 تشرين الثاني  2011.
10- وجد بعض التكفيريين في مصر حلاً اقتصادياً بان يأخذ جزية من أقباط مصر،مصر التي تحمل اسم أقباطها Egypt.
11- لم تظهر استقالة أي من أعضاء اللجنة اعتراضاً على هذه المادة وبالتالي هو تأييد ضمني لدولة مضمونها إسلامي شكلها مدني (علاقة الشكل المضمون)راجع… http://www.kassioun.org/index.php/html/html/index.php?mode=article&id=17822 .
12- لقاء مع د.أشرف بيومي، إذاعة النور لبنانية ،صباح 25/1/2012 الإسلام المروض .
13- رضوان المصمودي،لهـذه الأسباب سحبت واشنطن دعمها لـبن علي
http://libyaalmostakbal.net/news/clicked/18004
14- لقاء مع د.أشرف بيومي، مرجع سابق.
15- http://www.youm7.com/News.asp?NewsID=483615
16- http://www.alaamnet.com/?p=137
17- الناتو ينهي مهامه في ليبيا مخلفا 130ألف ضحية ودمار تجاوز 200 مليار دولار، http://arabi-press.com/?page=article&id=8836

معلومات إضافية

العدد رقم:
542