ما يبدأ بالفساد ينتهي بالخيانة... لماذا ظل خدام نائباً لرئيس الجمهورية حتى حزيران الماضي؟
نشرت صحيفة «نضال الشعب» في عددها رقم 477 الصادر في أيلول 1991 موضوعاً مطولاً عن المقدمات الأولى والمؤامرات المحكمة التي ساهمت في تداعي، ومن ثم انهيار الاتحاد السوفييتي، نقلاً عن صحيفة «سوفيتسكايا روسيا» في 27/ حزيران/ 1991، جاء فيه:
«من أهم ماقيل، ويلفت النظر، هو ماجاء به رئيس جهاز أمن الدولة، في اجتماع مجلس السوفييت الأعلى في 22 حزيران الذي قال حرفياً، حسب الوثيقة التي تسربت إلى جريدة الشيوعيين الروس:«إن أسباب الوضع المأساوي لدينا هي داخلية بالدرجة الأولى، ولكن لايمكن إلا أن نتحدث حول ماتقوم به بعض القوى الخارجية في هذا الاتجاه، ولذلك أريد لفت نظركم إلى وثيقة هامة وجهت في عام /1977/ إلى قيادة البلاد العليا من قبل مخابراتنا الخارجية، ويمكن الحديث الآن عن هذه الوثيقة إذ أن مصدرها في أمان، تحمل هذه الوثيقة طابعاً هاماً جداً، ويعود تاريخها إلى 24/ كانون أول/ 1977، وهي موجهة إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، وموقعة من أندروبوف، الذي كان رئيساً للجهاز في حينه: «تعمل المخابرات الأمريكية الآن على تسهيل وصول الموالين إليها إلى أماكن التأثير في إدارة السياسة والاقتصاد والعلم في الاتحاد السوفيتي. وقد قامت بوضع برنامج وميزانية لتحضير هؤلاء العملاء ذوي التأثير، ويدخل في البرنامج تدريب هؤلاء على التجسس والتخريب السياسي والأيديولوجي، وأهم ما يتعلمونه: هو طريقة إدارة الحلقات القيادية.
إن المخابرات الأمريكية تضع هدفاً لها هو تجنيد مواطنين سوفيت يشغلون مواقع ذات تأثير في الدولة وحسب مخطط المخابرات الأمريكية، يجري التنسيق بين هؤلاء من مركز واحد، ومهمتهم المباشرة: إنشاء صعوبات سياسية داخلية، وكبح تطور الاقتصاد الوطني، ودفع البحث العلمي في طريق مسدود».
والسؤال الأساسي اليوم: ألا يمكننا تجنب الكارثة المحدقة بضرب الفاسدين والخونة (الكبار)الذين باتوا معروفين للجميع، طالما أن ما جرى وما يزال يجري في بلدنا يشابه إلى حد كبير ما جرى في الاتحاد السوفييتي؟ إذن فلنسرع لأن الوقت يكاد ينفد!!
مصدر لبناني واسع الاطلاع واكب التطورات في سورية ولبنان منذ قيام الحركة التصحيحية في 16 تشرين الثاني عام 1970 يشرح «لمركز الإعلام العربي» الأسباب التي مكنت خدام وغيره من المتنفذين من إغراق سورية في الفساد والوصول إلى ما وصل إليه عبد الحليم خدام من التحول من نائب لرئيس الجمهورية العربية السورية، الدولة العربية الوحيدة التي لم توقع على اتفاقات سلام مع إسرائيل ولم تقبل الإملاءات الأمريكية وإملاءات الدول الكبرى، إلى أن يصبح مقره في باريس مركزاً للمخابرات الدولية وفي مقدمتها الموساد الإسرائيلي وشاهداً ضد بلاده في بلاط لجنة ميليس والقوى الدولية التي تحرك خيوط هذه اللعبة لمحاصرة سورية وإرغامها على الركوع أمام الإملاءات الأمريكية الإسرائيلية.
يقول المصدر اللبناني واسع الإطلاع: في عام 1970 قامت الحركة التصحيحية ورفعت أربعة شعارات أساسية:
الشعار الأول، الاستعداد للحرب من أجل استعادة الجولان، الشعار الثاني، إلغاء سيطرة الحزب الواحد القائم على فكرة الانفراد بالسلطة والانفتاح على الأحزاب الوطنية التي لعبت دوراً تاريخياً في النضال الوطني والاجتماعي في سورية، وتحديداً الأحزاب القومية واليسارية، وتشكيل جبهة مشتركة تقود البلاد، والعمل على تصحيح مسار التحولات الاجتماعية الراديكالية التي في سورية بما يسمح للقطاع الخاص الوطني بأن يلعب دوراً هاماً في التنمية، وأخيراً العمل بقوة باتجاه استعادة مسيرة التضامن العربي على أسس واقعية، والتخلي عن سياسة تمزيق الصف العربي التي سادت بقوة في فترة من الفترات.
وفعلاً وفور انتصار الحركة التصحيحية بدأت تطبيق منهجها الجديد، واستطاعت تشكيل الجبهة الوطنية، ووضعت سياسات اقتصادية جديدة لحظت دوراً هاماً للقطاع الخاص الوطني، وتمكنت دمشق آنذاك من استعادة علاقاتها الطيبة مع أكثر من عاصمة عربية، وبدأ التحضير لتحرير الجولان، فكانت حرب تشرين التي تمكنت من تحرير القنيطرة ولكنها فشلت في تحرير الجولان بكاملها بسبب الخلاف على مجريات الحرب مع الرئيس المصري أنور السادات، وقد برهنت مذكرات الشاذلي والوثائق التي نشرها الصحفي المصري محمد حسنين هيكل عن صحة ما ذهبت إليه سورية وخطأ ما قام به السادات، الأمر الذي أدى إلى انتكاسة خطيرة في الحرب انتهت بنجاح إسرائيل في احتلال مناطق مصرية غرب قناة السويس، وبالتالي وقف الحرب قبل أن تتوقف على الجبهة السورية التي استمر القتال فيها فترة زادت عن الأسبوعين.
بعد ذلك التاريخ استعرت الخلافات بين سورية ومصر حول الكثير من القضايا الهامة، وخصوصاً انفراد السادات في السير في طريق التسوية دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح ووجهة نظر شركائه في حرب تشرين، ووقع السادات اتفاق كامب ديفيد، وبديهي أن التوقيع جاء تتويجاً لمسار متدرج بدأ منذ عدة سنوات شهد ضغوطاً دولية وصراعات إقليمية كانت سورية المستهدف الأساسي فيها وكان لبنان أحد هذه الساحات.
في هذا السياق، يقول المصدر اللبناني، انفجرت فتنة دموية في سورية بعد زيارة السادات إلى دمشق في محاولة أخيرة منه لأخذ موافقتها على قيامه بزيارة القدس المحتلة، وصرح السادات من دمشق أن الدم سوف يسيل غزيراً في لبنان وسورية، وفعلاً بعد هذا التصريح بفترة قليلة تصاعدت الحرب الأهلية اللبنانية وقامت الفتنة الدموية في سورية، هذه التطورات فرضت على الرئيس حافظ الأسد تغيير أولوياته ووضعت أمامه مهاماً متعددة باتت تغطي الساحتين السورية واللبنانية وما يرتبط بما يجري عليهما من تفاعلات إقليمية ودولية، في ظل هذه الظروف لم يعد بوسع الرئيس حافظ الأسد الاستمرار بالتمسك بدفة قيادة البلاد وفقاً لصلاحياته الدستورية، واضطر إلى الاستعانة بالصف الثاني من القيادة، وكان في مقدمة الذين استعان بهم للقيام بمهام كانت من صلب صلاحياته، السيد عبد الحليم خدام، الذي كان آنذاك وزيراً للخارجية.
التصدي للفتنة الدموية في سورية، والتصدي للحرب الدامية ضد سورية في لبنان جعل الرئيس الأسد يعطي الأولويات لمتطلبات المواجهة والقيام بخطوتين أساسيتين:
الأولى، توزيع صلاحياته على عدد من المسؤولين الكبار في الدولة سياسيين وعسكريين.
الثانية، إعطاء الأولوية لمواجهة تبعات التطورات الإقليمية والدولية التي تستهدف سورية.
في هذا السياق احتل خدام مكاناً هاماً في القيادة إلى جانب رموز مثل العماد حكمت الشهابي رئيس الأركان والعميد غازي كنعان الذي تولى إدارة الوضع الأمني والعسكري في لبنان، وساهم في إدارة الوضع السياسي في لبنان في ظل إشراف عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي اللذين مثّلا القيادة العليا وكانا في غالب الأحيان يمرران المواقف باسم القيادة السورية وباسم الرئيس حافظ الأسد إلى العميد كنعان وإلى قيادات لبنانية أخرى حتى دون أن يكون هناك علم للرئيس الأسد بمثل هذه التطورات. فمن المعروف أنه في الفترة الواقعة بين أعوام 1976 وحتى عام 1982 كان خدام والشهابي، هما المشرفين الحقيقيين الفاعلين على الملف اللبناني، وهما اللذان يلتقيان القيادات والزعامات والأحزاب اللبنانية، وهما اللذان يحددان من يلتقي بهم الرئيس حافظ الأسد ومن لا يلتقيه.
في هذا المناخ بدأ نفوذهما يتعاظم داخل سورية وداخل لبنان، مستفيدين من انصراف الرئيس حافظ الأسد لمتابعة التطورات الإقليمية والدولية التي كانت تهدد سورية وكيانها منذ عام 1975 وقاما ببناء دولتهم داخل الدولة، دولة تشبه الدولة التي أقامها عبد الحكيم عامر وصلاح نصر في مصر ما بين أعوام 1960 و1967، أي أنهما أحكما، هما وأعوانهما، قبضتهم على مجلس الوزراء وعلى إدارة الملف في لبنان، ومنذ ذلك التاريخ بدأت مافيا الفساد في التشكل وإحكام سيطرتها على مفاصل الدولة، وقد بلغ نفوذهما قوة لدرجة أن الرئيس حافظ الأسد قد أسرّ للكاتب البريطاني باتريك سيل أنه فكر مرة أن ينزل إلى الشارع ويقود تظاهرة ضد الدولة، وضد النظام الذي كان هو رئيسه لأن ما يقوم به هذا النظام يتعارض مع كل نهجه ومعتقداته.
في عام 1984ألمت وعكة صحية خطيرة بالرئيس حافظ الأسد، واضطر إلى تعيين ثلاثة نواب لـه، بينهم عبد الحليم خدام الذي كان يشغل منصب النائب السياسي ولكنه كان في الحقيقة النائب الأول بفعل مراكز القوى التي تكونت داخل النظام وبفعل قوة المركز الذي كان يمثله والذي تمكن بعد إبعاد الرئيس لأحد نوابه وهو السيد رفعت الأسد الذي خرق الانضباط الحزبي والعسكري في تلك الفترة وحاول باكراً جرّ سورية إلى خط التسويات المنفردة والصلح العاجل مع إسرائيل حتى قبل استعادة الجولان، وأدت عملية إبعاد رفعت الأسد إلى اختلال موازين القوى داخل النظام على نحو بات يسمح لعبد الحليم خدام وأعوانه ومناصريه ليكونوا القوة المؤثرة في الأحداث والتطورات داخل سورية وفي لبنان، ومنذ ذلك الحين لم يعد الرئيس حافظ الأسد يمسك بكل خيوط اللعبة، بل إنه أصبح عاجزاً عن تقويم الانحرافات، ولهذا فكر باللجوء إلى الشارع، وبدأ الرئيس حافظ الأسد العمل منذ عام 1986 على تعديل موازين القوى داخل النظام للحد من نفوذ خدام وأعوانه سواء في سورية أو في لبنان لوقف السياسة والمسلكية التي انحرفت عن القيم التي سارت عليها الحركة التصحيحية، ولكن النجاحات كانت محكومة بموازين القوى داخل النظام التي كانت تميل لصالح تقوية نفوذ مافيا الفساد في سورية وفي لبنان على حساب القوى الوطنية الشريفة في البلدين.
يقول المصدر اللبناني واسع الإطلاع، إنه في هذه الحقبة حدثت تطورات كثيرة وخصوصاً في لبنان، إذ استطاع خدام وأعوانه في النظام في سورية من إحكام قبضتهم على الملف اللبناني وإبعاد الرئيس الأسد عنه إلى درجة كبيرة، وفي سياق هذه الفترة قاموا بضرب القوى الوطنية في لبنان، إذ إن عبد الحليم خدام هو الذي حال دون تعيين جورج حاوي نائباً في البرلمان خلافاً لرأي الرئيس حافظ الأسد الذي كان يعتقد أن الحزب الشيوعي يمتلك وزنا تمثيليا ولـه تضحيات في الدفاع عن لبنان تجعله جديراً بالحصول على موقع في مجلس النواب، وفي هذه الفترة بالذات نشأ تحالف ضم الشهابي وخدام وعدداً من القيادات والأحزاب اللبنانية، وبالتحديد الرئيس رفيق الحريري ورئيس الحزب التقدمي وليد جنبلاط، وبدأ هذا التحالف محاربة ممثلي التيار العروبي التحرري في لبنان، فسعوا أولاً إلى إزاحة النائبين نجاح واكيم وزاهر الخطيب عن النيابة منذ عام 1992 لولا تدخل مباشر وفي آخر لحظة من الرئيس حافظ الأسد بعد أن تم كشف ما دبراه يوم الجمعة قبل يومين من الانتخابات التي جرت في عام 1992، كما عملا على تحجيم الرئيسين سليم الحص وعمر كرامي تدريجياً معتمدين على مال النفط وعلى قيام خدام بتسخير نفوذ سورية العسكري والأمني والسياسي في لبنان من أجل إنجاز هذا الهدف.
ويقول المصدر اللبناني إن خدام وأعوانه قد حالفهم الحظ في أكثر من مرة، إذ جاءت التطورات الدولية والإقليمية العاصفة، وخصوصاً موت الاتحاد السوفييتي ومرض الرئيس حافظ الأسد، وينقل زوار العاصمة السورية في تلك الفترة قصصاً كثيرة عن الصراع المحتدم وكان غالبيتهم يعلمون أنه كان في سورية نظامان، نظام الرئيس حافظ الأسد الذي يمثل خط العروبة والممانعة وينحاز إلى الشعب، ونظام مافيا الفساد الذي يقوده خدام وأعوانه والذي يسعى إلى التحالف مع الولايات المتحدة والصلح مع إسرائيل للحفاظ على مصالحه الخاصة التي تكونت عن طريق الفساد ونهب أموال الشعب وعن طريق الرشاوي التي تلقاها نظراً لخدماته لبعض الزعامات في لبنان.
يقول المصدر اللبناني، ولكن الرئيس حافظ الأسد ورغم كل هذه الصعوبات ورغم معرفته بحجم قوة تيار الفساد الذي يقوده خدام، ورغم المرض والتطورات الإقليمية والدولية العاصفة، ورغم خسارته لباسل الذي يعتمد عليه كثيراً للحد من هيمنة هذه المافيا، نجح أخيراً في تعديل موازين القوى لمصلحة الخط الوطني، وابتداءً من عام 1998 بدأ في الهجوم المضاد لإضعاف مافيا الفساد، وبدأ الدكتور بشار الأسد من موقعه غير الرسمي يلعب دوراً مسانداً وفعالاً آنذاك، وكان لانكشاف ممارسة مافيا الفساد السورية اللبنانية على الساحة اللبنانية دور كبير في توليد موجة شعبية عارمة جاءت بالرئيس أميل لحود قائد الجيش آنذاك والذي وقف في وجه هذه المافيا رئيساً للجمهورية، وكاد أن يطاح بهذه المافيا في سورية ولبنان عبر ثورة من فوق يقودها الرئيسين حافظ الأسد وإميل لحود لولا حدوث تطورين هامين مفاجئين أثرا على كل مجريات الصراع في المنطقة وفي العالم وداخل سورية ولبنان، وهما وفاة الرئيس حافظ الأسد في حزيران عام 2000 ووقوع هجمات 11 أيلول عام 2001، إذ تسارعت الأحداث والتطورات بوتيرة أكبر، مما حال دون إنجاز عملية حسم سريعة ضد مافيا الفساد في سورية أولاً، وفي لبنان ثانياً، واضطرت ظروف انتقال الرئاسة من الرئيس حافظ الأسد إلى الرئيس بشار الأسد إلى إبطاء عملية الإصلاح ومكافحة الفساد، واستفادت المافيا من هذه التطورات لتحافظ على مواقعها إلى أن تمت إزاحتها في المؤتمر القطري العاشر.
وحسب المصدر اللبناني المطلع فإن ما قام به خدام بعد لجوئه إلى باريس هو ردة فعل على إبعاده عن السلطة وتفكيك مافيا الفساد في سورية ولبنان، وما كان لهذه العملية أن تتم بفعل كل الظروف التي مرت بها سورية ولبنان، إلا في هذا التوقيت بالذات، ولهذا فإن القيادة السورية، أو بالأحرى الرئيسان حافظ الأسد وبشار الأسد لم يكونا في وضع يمكنهما من إبعاد هذه المافيا ومحاسبتها وتجنيب سورية خضات سياسية ودموية إلا عن طريق العمل المتدرج، وكان لهذا ثمن باهظ دفعه الشعب السوري والشعب اللبناني، وكان على حساب سمعة القيادة السورية الممثلة بالرئيس بشار الأسد وقبله الرئيس حافظ الأسد وكل الوطنيين الحقيقيين في سورية ولبنان.
■ حميدي العبد الله
قاسيون . بتصرف