هل يوجد من يواجه الفاشية داخل الإعلام الغربي ..؟!
إذا كانت التحليلات السياسية، والاقتصادية إلى حد ما، تسمح بالوقوف على انقسام واضح ضمن الأوساط الحاكمة الغربية بين تيارين درج على تسميتهما: «العقلاني» و«الفاشي الجديد»، فإنّ المسألة برمتها تأخذ مساراً مغايراً وأكثر تعقيداً عند اقتراب التحليل من الجانب الإعلامي- الثقافي..
قبل كل شيء، ومنعاً للالتباس، فإنّ ما نقصده بـ«الإعلام الغربي» هو كل إعلام يتمثل الخطوط العامة لـ«الغرب السياسي»، وليس مهماً ها هنا بأي اللغات ينطق ذلك الإعلام، ولأي الجماهير يتجه. مثلاً، قناة الجزيرة القطرية وقناة العربية السعودية وموقع «العربي الجديد» وأشباهها، تندرج جميعها ضمن الإعلام الغربي إذا ما التزمنا التعريف المقترح أعلاه، كذلك الأمر مع قنوات فضائية تبث من التيبت وباللغة الصينية ولكن تتمثل السياسات الغربية.. وإلخ.
محاور مقترحة
إنّ إطلاق أي حكم عام على الإعلام الغربي، لا يستقيم بحال من الأحوال إلا إذا تمكّنا من وضع اليد على المشترك ضمن منابره المختلفة، وهذه مسألة متدرجة في صعوبتها (كما سيظهر في السياق). ولما كان الإعلام معنياً بالحديث عن كل شيء في الحياة تقريباً، فلا بد من تحديد محاور وقضايا أساسية يمكن بتجميعها تكوين صورة قريبة من الواقع قدر الإمكان عن هوية وأهداف كل وسيلة إعلامية، وهنا نقترح (من منطلق سياسي-اقتصادي، وثقافي) المحاور الخمسة التالية: (الإرهاب، اللاجئين عامة والسوريين خاصة، مفهوم الهويات الحضارية وطريقة التعاطي معها، مفاهيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، الموقف من روسيا)، ونعتقد أنّ دراسة مجموع ما تقدمه أية وسيلة إعلامية في المحاور المقترحة كافٍ لتحديد درجة خدمتها، أو محاربتها، للفاشية الجديدة.
المستوى الأول
يمكننا استناداً إلى ما تقوله وسائل الإعلام الغربية في المحاور المقترحة، ودون عناء كبير ودون دخول في تحليلات عميقة، الوصول إلى تصنيف أولي يضع قسماً غير كبير منها في خانة مناصري الفاشية، ذلك القسم الذي يساوي بين الإرهاب والإسلام، أو الإرهاب والعرب (شارلي إيبدو مثلاً)، ونظيره الذي يسبغ صفات إنسانية أو سياسية وطنية على فصائل إرهابية قولاً وفعلاً (الجزيرة مثلاً). وأما شبكة من طراز BBC أو التلفزيون الرسمي الألماني، فلا يمكن حشرها ضمن مناصري الفاشية إذا استندنا إلى صريح ما يقال في هذه الوسائل ضمن المسائل الخمسة المقترحة، بل إن بعض ما تقدمه يمكن أن يظهر معادياً للفاشية: (في مسالة اللاجئين السوريين مثلاً، تبدي المحطات الألمانية الرسمية تعاطفاً مستمراً معهم، بل وتهاجم «الأحزاب اليمينة» المتطرفة التي تنادي بطرد السوريين). ذلك إلى جانب بعض منابر إعلامية «يسارية» تقدم نفسها عدواً لدوداً للفاشية، رغم أنها في أغلب الأحيان منابر نخبوية أو قليلة الشعبية في أحسن الأحوال.
المستوى الثاني
إذا شاء المرء التعمق أكثر، وعدم الركون إلى ما يقال في هذه القضية المنفردة أو تلك، فإنّ عليه أن يمضي إلى مستوى ثانٍ من تحليل ما يقال.. ولنأخذ مثلاً: القناة الألمانية شبه الرسمية (ZDF) والموجهة إلى الداخل الألماني، هذه القناة هي رأس حربة (إن جاز القول) في الهجوم على طروحات النازيين الجدد العنصرية ضد اللاجئين السوريين، وهو ما يظهر الحزبين (الديمقراطي المسيحي، والاشتراكي الديمقراطي) في غاية الإنسانية، ولكن القناة نفسها تزيح جانباً حقيقة أنّ سياسة هذين الحزبين التي تقرر عملياً السياسة الخارجية الألمانية هي داعم من داعمي استمرار الأزمة السورية وأزمة اللجوء تالياً، وهي كذلك من أهم المصفقين للاتفاقات المعقودة مع أنظمة مثل تركيا وشمال إفريقيا منعاً لعبور المهاجرين نحو ألمانيا، رغم ما هو معروف عن الأوضاع غير الإنسانية التي يعيشها هؤلاء في تركيا وغيرها. يضاف إلى ذلك أن الهجوم على روسيا في هذه القناة هو تحت خانة (حدث ولا حرج). أي أنّ ما تفعله (ZDF) ليس أكثر من هجوم لفظي على الفاشية، مقرون بتنفيذ عملي لسياساتها.
اشتقاقاً من المثال السابق، فإنّ إعلاماً يتباكى يومياً على حلب وريفها، ويدعم عملياً سياسات الحكومات الغربية، التي تدعم بدورها النصرة وأشباهها محاولة حمايتها وتأخير أجلها، هو إعلام داعم للفاشية الجديدة.. وفقاً لهذا الوصف قد لا تنجو وسيلة غربية واحدة من الصفة الفاشية!
المستوى الثالث
مع ذلك، فثمة بعض الوسائل قليلة الشعبية كما أسلفنا، والتي غالباً ما تدعي كونها يسارية، ولكن حتى هذه لا ينجو منها (إلا ما رحم ربي)! مثلاً الصحيفة الألمانية قليلة الانتشار Tageszeitung أو «الأخبار اليومية» هي صحيفة تنبري للدفاع عن المرأة وحقوق الإنسان والبيئة، وتقدم نفسها بديلاً يسارياً، ولكن قليلاً من البحث كفيل بالوقوف على عداء شرس لروسيا من الباب المناسب تماماً للفاشية الجديدة. على الهامش، فإنّ دير شبيغل الشهيرة تعرف نفسها يسارية مستقلة! والمعروف في ألمانيا أنها مقربة من الاشتراكي الديمقراطي المشارك في السلطة.
كمثال آخر، هنالك صحيفة فرنسية قليلة الانتشار أيضاً، هي courrier international، مختصة بتقديم ترجمات فرنسية لمقالات من الصحافة العالمية، ولدى البحث ضمنها عما تترجمه من مقالات عربية، فإنك ستجد بشكل أساسي مقالات مترجمة عن صحف من نمط «العربي الجديد»، «المدن»، «الحياة»، والتي ليس من الصعب إطلاقاً تصنيفها في عداد خدمة الفاشية الجديدة.
محاولة تفسير
إنّ الصراع السياسي داخل الأوساط الحاكمة في الغرب، لا تتم ترجمته وترجمة أوزان المتصارعين ضمنه بشكل مماثل ضمن الصراع الإعلامي، ففي الوقت الذي لم تحسم به معركة «العقلاني» مع «الفاشي» لمصلحة أي منهما، مع احتمالات بانتصار الأول، فإنّ اللوحة الإعلامية الغربية تبدو مسودة من الفاشية الجديدة وطروحاتها، فإلام يمكن رد ذلك؟
إنّ الرأسمالية كتشكيلة اقتصادية- اجتماعية، قد دخلت مرحلة التعفن منذ مطالع القرن الماضي، وأول ما يتجلى التعفن فإنّه يتجلى في علاقات الإنتاج، ولكنّه يمتد بعد ذلك للجوانب الفوقية كافة بما فيها الجانب الثقافي، وهذه عملية تأتي متأخرة عن الأولى بطبيعة الأمور. ولعل التاريخ الذي يمكن القول أنّ الرأسمالية قد تعفنت ثقافياً فيه، هو أواخر ستينات القرن الماضي، ففي تلك المرحلة ومع استكمال بناء منظومة الاستعمار الحديث، الذي لم ينج أوروبا من الأزمة، ومع بدء التحضيرات للانتقال نحو الليبرالية الجديدة، بدأت عملية نسف طروحات الحداثة ذات الأبعاد الإنسانية العامة، لتحل محلها طروحات ما بعد الحداثة، لا في المجالات النقدية فحسب، بل وفي المجالات كلّها، ضاربة مفاهيم التكافل والتعاون المجتمعي، ومعلية إلى الحد الأقصى قيمة الفرد، ورأس المال ومالكه من وراء القصد بطبيعة الحال. كمثال على ذلك، فإنّ عدداً كبيراً من الدراسات الموسيقية في الولايات المتحدة باتت تتفق على أنّ الإنتاج الموسيقي الأمريكي الفعلي والجدي قد توقف نهائياً منذ السبعينات! يمكن أن نجد لدى الأوربيين آراء مشابهة حول الإنتاج المسرحي.
بالمحصلة فإنّ «العقلانيين» لا يملكون أي طرح ثقافي جدّي في مواجهة الفاشية، طالما يبحثون عن ذلك الطرح في الجعبة الرأسمالية نفسها..
أياً كان الأمر، فإنّ أهم ما في المسألة هو أنّ الواضح وضوح الشمس هو أنّ أضعف جبهات أعداء الفاشية، المؤقتين والجذريين، هي الجبهة الإعلامية، وبأخذ قانون الانتفاضة اللينيني بعين الاعتبار فإنّ عدم تحقيق خروقات تراكمية ويومية على مختلف الجبهات وبينها هذه الجبهة، يعني فشلاً محتوماً..!