أليس هناك أكثر من الديمقراطية ؟

أصدرت لجان إحياء المجتمع المدني في سورية قراءة نقدية في «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي» هذه أبرز فقراتها:

المرحلة دقيقة وحرجة، والظروف المحيطة ببلدنا، هي على درجة عالية من الخطورة، نحن أحوج ما نكون فيها إلى أكبر قدر من العقلانية والابتعاد عن ردود الأفعال في تحديد خياراتنا المستقبلية وصياغة أفكارنا ورؤانا السياسية الوطنية، والحرص الأكيد على استيعاب وجهات النظر كافة، كي تتفاعل إيجابياً، لتلافي ما أمكن، جوانب النقص والقصور فيها.

...كنّا نتمنّى، لو أنّ الأطراف الموقّعة على «إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي» أبدت حرصها الأكيد على استيعاب الرؤى  والأفكار المختلفة لجميع الفعاليات والجهات المدنية والسياسية في سورية، قبل صدور الإعلان، كي تتجنّب، على الأقل، بعض الثغرات والنواقص فيه، لكنّ هذا لم يحدث مع الأسف، رغم تكرار حديثها عن ضرورة عدم إقصاء أحد. وما دام الإعلان قد صدر، دون أدنى معرفة منّا بحيثيات التحضير والإعداد له، فقد أصبح من حقّنا الكامل والمشروع، أن نبدي وجهات نظرنا فيه بعقلانية كاملة، لنبيّن ما له وما عليه، انطلاقاً من قناعتنا الأكيدة بأنّ هذا الوطن، هو ملك لجميع أبنائه، دون تمييز...

.. نؤكّد على انتماء سورية العربي، وحق أشقائنا في العراق وفلسطين في مقاومة الاحتلال ومعارضةّ جميع أشكال الإرهاب والعنف ضد المدنيين. وندعم تمهيد الطريق لعقد مؤتمر وطني، لإقامة النظام الوطني الديمقراطي وإنهاء مرحلة الاستبداد.

بيد أنّ هذه المطالب والأسس قد تمّ إلغاؤها عملياً وتفريغها من مضامينها، بفقرة واحدة في الإعلان تقول : «ضمان حق العمل السياسي لجميع مكوّنات الشعب السوري على اختلاف الانتماءات الدينية والقومية والمذهبية»، أي العودة بنا إلى ترسيخ البنى المغلقة، ما قبل الوطنية، من دينية وطائفية وإثنية وعشائرية، وتحقيق «ديمقراطية» التراصف الطائفي والإثني والعشائري،التي تحمل في ثناياها بذورالتفتيت والتشظّي والحروب الأهلية. إنه يأخذنا إلى حالة من الانتماءات ما قبل المدنية، تفقد فيها المصطلحات الحديثة دلالاتها.

ونرى أنّ المجتمعات، خاصة،ً المتعدّدة دينياً ومذهبياً وعرقياً، كما هي عليه الحال في سورية، لن تجد لحمتها وسلامها الاجتماعي، وربّما وجودها، إلاّ بتجاوز أشكال الترابط والتضامن المغلقة القديمة، ما قبل الوطنية، والوصول إلى صيغ وأشكال التضامن المدنية المفتوحة والحديثة.

كما أنّ الفقرة الطويلة، التي أقحمت في النص،والتي تبدأ بعبارة «الإسلام هو دين الأكثرية.. الخ»، تحيلنا إلى  مفهومي «الأكثرية والأقلية» بالمعنى الطائفي أو الإثني، بوصفهما مفهومين من مفهومات ما قبل السياسة المدنية والحداثة، أي كمفهومين مغلقين. تأسيساً على ذلك، فإنّ مفهوم المواطنة، الذي ورد في نصّ الإعلان يفقد معناه الدلالي الحديث، ما دام يرتكز إلى ضمان حق العمل السياسي لجميع الانتماءات الدينية والقومية والاجتماعية. إنّ ما ننشده، هو بناء ديمقراطية حديثة، يكون فيها مفهوم «الأكثرية والأقلية» مفهوماً سياسياً مدنياً متحوّلاً ومتغيّراً،أي مرناً ومفتوحا ًومتجدّداً،  بحيث يمكن أن تتحوّل الأقلية السياسية إلى أكثرية، والأكثرية السياسية إلى أقلية سياسية.

وهنا لابدّ من استبدال مضموني الأقلية والأكثرية الطائفية أو العرقية بمبدأ المواطنة، بمعناه الحديث، وحق كلّ مواطن دستورياً وسياسياً وعملياً، أخذ حقوقه وواجباته كاملة، بالتساوي مع المواطنين الآخرين، بصرف النظر عن الدين والجنس والعرق.

اللاّفت في هذا الإعلان، أنه يتجنّب ذكر الولايات المتحدة الأمريكية، ولو بكلمة واحدة، وكأنّه لا علاقة لها مطلقاً، بتردّي أوضاعنا وبأزماتنا، فقد تمّ تحييدها تماماً في الإعلان، من خلال السكوت عنها.

نعتقد أنّ هذا المنطق، يحرف مسار العمل الوطني عن وجهته الصحيحة، الذي  ينبغي أن لا يكتفي بالتصدّي لفضح أنظمة الاستبداد في الداخل، بل يتعدّاها ليطاول الاستعمار أيضاً. فلا يمكن أن تكتمل اللوحة، بتعرية أنظمة الاستبداد في الداخل فقط، وبالسكوت عن الاستبداد الخارجي. ربّما كان البعض يعتقد، أنّه بسكوته عن التعريض بالولايات المتحدة الأمريكية، يمكن أن يخطب ودّها ويكسب تأييدها في المرحلة المقبلة.

لكنّنا نعتقد، أنّ هذه براغماتية بلا ضفاف، من شأنها أن تضرّ بمصالحنا وبقضايانا الوطنية. فالولايات المتحدة الأمريكية هي التي جاءتنا غازية معتدية، فاحتلت العراق وجعلت منه رأس جسر لإعادة صياغة الأوضاع في منطقتنا، بما ينسجم مع الأولويات والمصالح الأمريكية والصهيونية.

يغضّ الإعلان النظر تماماً، عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين السوريين، الذين يعانون الفاقة والفقر، نتيجة السياسات الاقتصادية والاجتماعية المجحفة بحقهم، التي يسلكها النظام، والتي هبطت بشرائح واسعة من السكان إلى ما دون خط الفقر. ويدخل الاهتمام بحل مشكلاتهم المعاشية وتأمين مستلزماتهم الحياتية، في صلب مهام البرنامج الوطني الديمقراطي.

يغفل الإعلان كلّيّاً، قضية المرأة،التي تمثّل جانباً بالغ الأهمية، في أيّ مشروع وطني ديمقراطي،الأمر الذي يشكّل ثغرة حقيقية فيه.  فالمشروع الوطني الديمقراطي يتطلّب إيلاء اهتمام أكبر بقضايا المرأة، بما يضمن ويعزّز دورها في المجتمع ويلغي جميع أشكال التمييز ضدّها.

كما يتجاهل الإعلان أهمية الحيزات الثقافية بالنسبة للديمقراطية،التي تفتقر بغيابها، لأبسط المقوّمات. هنالك إشكالية مفادها أنّ البعض يريد الديمقراطية في السياسة، ولا يريدها في الفكر.

فالمشروع الوطني الديمقراطي، لايكتفي بالديمقراطية السياسية فقط، بل يتعدّاها  لتحقيق الديمقراطية الفكرية والإجتماعية أيضاً، وهذا ما تمّ التغاضي عنه من جانب الإعلان.

  دمشق في 22/10/2005

 

   ■ قاسيون «بتصرف»