الاستقواء بالحضيض (ج1)
قيل إن فرانكو جند مخبريه من حثالة المجرمين، فأي خطاب كان يعتمد لجمع المحازبين؟ بالتأكيد كان يعتمد خطاباً يستقطب حضيض أصحاب النزعات الضارة، وهو خطاب غير عقلاني، يستقوي بالغرائز ويطمس الحقائق، إذ لكل قضية خطابها ورجالها. هذه محاولة للتحري عن فراكو عندنا.
في أوقات الأحداث الساخنة في فلسطين، نسمع أحياناً من يقول في إشارة إلى دور العملاء في تصفية القيادات الميدانية : " دود الخل منه وفيه ". يقال هذا بلهجة إدانة للشعب الفلسطيني وليس الدعوة إلى التحصين ضد العملاء. أي أن المستهدف هم ضحايا العملاء بالذات ؛ فهم لا يستحقون الشفقة لوجود عملاء بينهم .
الشيء نفسه يقال في دعوى البعض أن الفلسطينيين باعوا أرضهم. فالمتحدث لا يستثني من الإدانة من شردوا بالقوة ومازالوا منذ أكثر من خمسين عاماً يقاتلون من أجل العودة، بل المستهدف الحقيقي هم هؤلاء المشردون بالذات، فالذين باعوا هم أفراد طواهم النسيان والأحداث، لكنهم يستحضرون أوقات المجازر لإدانة ضحاياها.
لحن خطاب المتحدث عن البيع يوحي بأن البيع كان سياسياً عن وعي كامل بطبيعة الكيان الصهيوني في تلك المرحلة، أي كان بيعاً لفلسطين، فهنا تضيع الحدود بين بيع قطعة أرض وبين بيع وطن، فهل يشتري المهاجرون اليوم في مواطنهم الجديدة دولة وسيادة على شعوبها ؟!.
1ـ لقد بيعت أراضٍ منذ عام 1860، هو تاريخ إنشاء أول مستوطنة في زمن الأتراك. والملكية في فلسطين قبل عام 1948كانت إقطاعية، والإقطاعي الفلسطيني أو غير الفلسطيني الذي كان يأخذ المرأة من تحت زوجها ليس معنياً بمصير شعبه أو فلاحيه، كما أن الفلاح الذي لا حول له ولا قوة هنا، هو بالتأكيد لا يملك أرضاً يبيعها. فكيف ينتظر المنصف من شعب غارق في الجوع والتخلف والظلم الإقطاعي والاستعماري أن يعي أبعاد مشروع في وقت لم تتضح فيه بعد حتى لأصحابه ؟!.
2ـ العمالة ليست سمة لأي لشعب، فلم يحدث أن خضع شعب للاحتلال إلا ووجد من يتعاون معه، لكن لحن الخطاب هنا يريد أن يوحي أن العمالة سواء المباشرة أم المفترضة خلف عمليات البيع سمة عامة للفلسطينيين .
الحساسية من الاحتلال لم تكن يوماً على درجة واحدة عند جميع أفراد أي الشعب ؛ الشعب هو كل ما نراه ونسمع به يومياً؛ فدائماً يوجد أنانيات، ومصالح، ومكونات نفسية، وملكات فكرية، وبالتالي استعدادات متفاوتة لمقاومة المحتل أو للتعاون معه، والنتيجة دعاية وأفكار وقيم ومفاهيم تبرر كل هذا وتنسجم معه. وهؤلاء الذين ليس لديهم الدافع للصراع مع إسرائيل يقولون بالبيع ودود الخل فيلتقطها صنف آخر طلباً للرضا على الذات ؛ فالإنسان مفطور على السعي إلى أن يكون راضياً عن ذاته، وعندما يكون أنانياً خائفاً من عواقب المواجهة، غارقاً في العجز المستدام إزاء هذه القضية، يميل لا شعورياً إلى رجم الفلسطيني ليبرر لذاته قبل الآخرين تقاعسه عن الصراع .
العمليات الاستشهادية تصدم هؤلاء على مختلف دوافعهم ؛ فمن طبيعة الأمور أن المرء لا يبيع طلباً للتشرد والقتال من أجل العودة، والفداء الذي تمثله يطغى بحضوره على حضور العملاء والبائعين ويزيدهما بشاعة وتنفيراً، لذا لا بد من تشويه مغزاها. وهكذا وجدنا الحضيض بمختلف مشاربه يشن هجوماً لا هوادة فيه على هذه العمليات باعتبارها عمليات إجرامية.
الحجج التي سقتها ضد البيع ودود الخل بديهية، لكن هنا لا تنفع الوقائع والحجج، فحقيقة الأمر ليست في جهل المتحدث أو غبائه بل في مكان آخر ؛ فهذا حزب يتحدث في موضوعاته عن تحقيق الديمقراطية في مجتمعاتنا كسبيل إلى تحقيق السلام العادل والشامل مع من استقروا بالقوة في بيوت المشردين، مبرئاً المعتدي حاصراً بذلك المسؤولية في الطرف العربي، وانسجاماً مع هذا لم يجد ما ينتقد الحكومات العربية به على مدى الصراع إلا أنها " ومنذ البداية أسهمت في تدعيم أسس إسرائيل، منذ ساعدت على دفع اليهود العرب للهجرة إليها، ثم عاشت مستقرة سعيدة تحت تهديد الشعوب بالخطر الجاثم على الحدود". وهذا ما أزعم أنه ليس جهلاً بطبيعة الكيان الصهيوني من حزب زايد كثيراً قبل سنوات طويلة خلت وما زالت في البال!! لكنه اليوم ،علناً وعلى رؤوس الأشهاد، يتساوق مع المخططات الأمريكية ويقف موقفاً عدائياً من المقاومات العربية .
الحالة النموذجية هنا هي العراق. فلقد هاجر منه إلى إسرائيل 120 ألف يهودي. لكن الحكومة العراقية لم تكن مسؤولة عن تلك الأعمال المحدودة والتي لا تشكل سببا كافيا للهجرة فكيف إلى إسرائيل بالذات؟ فلقد كان في الحكومة العراقية آنذاك ثمانية وزراء يهود. واليهود يعلم المناضلون هاجروا وسيهاجرون بسبب عقيدتهم من أكثر البلدان استقرارا وانفتاحا عليهم ،عربية كانت أم غير عربية. وهناك 300 ألف يهودي مغربي مزدوج الجنسية يتنقل ما بين المغرب وإسرائيل بحرية. ولئن كانت الحكومات عند قيام إسرائيل غير مكترثة بالخطر الجاثم على الحدود لأنها صنائع استعمارية وبالانتخابات أحياناً، فإن هذه الأعمال التي ينسبها للحكومات غير مجزوم بصحة نسبتها إلى عرب غير يهود، فالحركة الصهيونية قد تكون هي التي قامت بأعمال ترويع لليهود العراقيين بقصد تسريع الهجرة، وهذا ليس غريبا عنها، خاصة أن الحكومة العراقية كانت قد خيرت يهود العراق بين البقاء وبين الهجرة إلى إسرائيل دون أن تحدث هجرة ملحوظة. كما أن الحكومات لا تتحمل مسؤولية تصرفات مواطنيها إلا في النزوع للابتزاز ؛ فالحكومات قد تكون ضحية مواطنيها بالذات. والصهاينة، بعد أن أصبحت القضية في أذهان أفضل نخبنا تبتدئ عام 67، أخذوا يطالبون بالتعويض عن ممتلكات اليهود الذين هاجروا من البلدان العربية ليقتلعوا الفلسطينيين وينشئوا دولتهم العنصرية .
تجاهل الحقائق هنا له وظيفة محددة هي الدعوة للالتفات إلى الاستبداد لئلا نساعده بانشغالنا بالخطر الجاثم على الحدود. فالصراع مع إسرائيل حاجة حيوية للأنظمة المستبدة وليس للديمقراطيين حتى قبل أن يوجد أدعياء ديمقراطية أو إصلاح فعلى حد قول نتنياهو الحكومات المستبدة غير قادرة على صنع السلام. وهذا التغييب للحقائق واللعب على الغرائز والالتفات عن الصراع مع إسرائيل نقطة مشتركة بين المناضلين وبين أصحاب نظرية البيع ودود الخل والإجرام، تلك النظرية التي تقف خلفها مختلف النزعات الضيقة، كالفردية والطائفية والمذهبية والقبلية الحزبية والقطرية إضافة إلى نزعة الاستسلام والتسوية؛ فهي تهدف إلى تعبئة هؤلاء لأن لكل قضية خطابها الذي يلم شمل رجالها .
■ أكرم إبراهيم