يسار در.. أمام سر..

التغييرات الجارية في العالم تسير أسرع مما توقع البعض، بل هي مفاجئة ومذهلة للكثيرين من الذين لم يتوقعوها بتسارعها وجذريتها..

فمعسكر اليسار الحقيقي في العالم يشتد عوده بعد الهزيمة التي ألحقت به في أوائل التسعينات، وينتقل من مواقع الدفاع السلبي إلى مواقع الدفاع النشيط، الذي يؤسس للانتقال إلى الهجوم على طول الجبهة من أمريكا اللاتينية إلى آسيا.

وحينما نقول اليسار الحقيقي، نقصد أنه يجب التمييز بين اليسار الاسمي واليسار الفعلي، فاليافطة المعلنة لهذا أو ذاك لا تعني شيئاً بتاتاً، إذا لم تنعكس بمواقف حقيقية ضد الامبريالية ومخططاتها، وضد الليبرالية الجديدة وسياساتها.

وضمن الاصطفافات الجديدة بسبب شراسة الهجمة الامبريالية وخاصة الأمريكية على العالم  بأجمعه، يمكن أن نجد علمانياً يمينياً وكذلك إسلامياً يسارياً، ولا يهم ما يطلق كل طرف على نفسه من تسميات، فالمهم هو الموقف على الأرض، الذي يحدد موضوعياً موقع كل طرف, وبالتالي موقفنا منه..

إن الليبرالية الجديدة ممثلة بطليعتها من المحافظين الجدد، سعت إلى خلط الأوراق وتشويه الاصطفافات الحقيقية القائمة على أساس مواقف سياسية واجتماعية، وحاولت استبدالها باصطفافات على أسس عنصرية ودينية وطائفية، وخلقت الأدوات التي يمكن أن تساعدها على ذلك، عبر تصنيع وتفعيل ثنائيات وهمية مختلفة، كي يغوص المتضررون من السياسات الإمبريالية بصراعات تبقي العدو الأساسي خارج مرمى نيرانهم.

والواضح اليوم أن الهجوم الشامل لليبرالية الجديدة على المستوى العالمي، قد بدأ يستنفد نفسه، رغم كل الوسائل التي استخدمها من الوسائل السياسية إلى الاقتصادية والإعلامية، وأخيراً العسكرية، وأصبح جاهزاً للانكفاء تحت ضربات مقاومة الشعوب على مساحة الكرة الأرضية كلها.

وإذا كنا قد توقعنا منذ سنوات إمكانية تراجعهم وبداية نهوض قطب الشعوب، إلا أن درجة الانعطاف الحالية تجعلنا أكثر تفاؤلاً فيما يخص مصير العالم خلال السنوات القليلة القادمة.

والغريب في الأمر أن الذين كانوا يقولون بضرورة التكيف مع التغيرات السابقة الحاصلة عبر خفض الرأس للعاصفة، لا يريدون أن يروا ما يجري من متغيرات، ونحن ندعوهم الآن تحديداً للتكيف مع موجة المقاومة والممانعة العالمية التي تشتد ضد سياسات الإمبريالية، وخاصة الأمريكية- الصهيونية، فهذا هو التكيف الحقيقي مع مجرى التاريخ، وليس عكسه.

إن مكونات وأدوات الليبرالية الجديدة عالميا تعاني من مصاعب لا حلّ لها، فمنظماتها الدولية من صندوق النقد الدولي إلى البنك الدولي، وصولاً إلى منظمة التجارة العالمية، لم تعد قادرة على فرض شروطها ووصايتها كالسابق، على أرضية دفاع الشعوب والدول المتضررة من سياساتها، عن حقوقها.

أما بلدانها الأساسية، بلدان المركز كما يسميها البعض، فتعاني من أزمات داخلية خانقة، وهي تضطر للانتقال بالتدريج إلى سياسات تمهد الأجواء لقمع جماهيرها في بلدانها.

ولا ضرورة للتذكير بمصير الدول والحكومات التي ابتلعت الوصفات الجاهزة، وما وصلت إليه من خراب على المستويات كافة، وخاصة الاقتصادية الاجتماعية، مما يؤكد سقوط هذه السياسات.

أما نجاحات اليسار في العالم من أمريكا اللاتينية إلى الهند، فهي تؤكد أن هنالك خياراً آخر هو خيار الشعوب، وهو ينمو ويقوى على طريق أن يصبح القطب الحاسم في الصراع العالمي.

ومع تعقد الأوضاع في منطقتنا، واقترابها من لحظة انفجار العقدة التي سببتها سياسات التدخل المختلف الأشكال، الأمريكية- الصهيونية، يصبح المطلوب حسم الخيارات الداخلية في بلادنا، وإسقاط السياسات الليبرالية الجديدة، والسير في سياسات تنموية شاملة، تصبح جزءاً مكوناً من سياسة المواجهة والمقاومة. إذ أثبتت التجربة أنه لا يمكن الثبات والصمود في مواجهة المخاطر الخارجية التي تمثلها السياسات الليبرالية الجديدة المسلحة، ومغازلة ممثلي الليبرالية الجديدة داخليا بآن واحد، لأنهم في نهاية المطاف امتداد عضوي لتلك السياسات الكونية الشاملة التي ترعاها الامبريالية الأمريكية.

إن الحل الوحيد، الصحيح والممكن أمامنا، كجزء من معسكر الشعوب هو: يسار در.. أمام سر، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن، أما التأخر عن الحسم في هذا الاتجاه، فسيخلق فراغاً تملؤه القوى الرجعية من شتى الألوان والأصناف، في محاولة لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.