عن تركيا القلقة..!

عن تركيا القلقة..!

كثيرة هي الاستدارات التي حصلت فيما يتعلق بالمواقف من الأزمة السورية، وتحديداً من موضوعة الحل السياسي. 

كل من أثقل أسماعنا على مدى سنوات بالحسم والإسقاط استدار، من واشنطن التي جيشت يوما «مارينزها» على أمل تكرر النموذج العراقي أو الليبي، إلى التبّع الأوربيين، إلى الائتلاف الذي يبلع لاءاته صباحاً ليعود إلى النطق بها مساءً، إلى النظام ونظرية الحسم. ولكن تبقى للاستدارة التركية «نكهة» خاصة، من حيث حدتها، وتوقيتها، ومعانيها، ودلالاتها، ونتائجها الإقليمية، والدولية، والأهم مفارقاتها؟

أولاً: كانت أنقرة وما زالت جزءاً من منظومة واشنطن العسكرية والسياسية والاقتصادية، وكان من المفروض أن تتقاطع استدارتها مع التراجع الأمريكي وتلقى قبولاً وارتياحاً من البيت الأبيض، ولكن البيت الأبيض لم يتعود أن يغرد أحد خارج السرب، إلا بعلمه هو، وبالتوقيت الذي يختاره هو، وبالطريقة التي تخدم المشروع العام. ولكن التوازن الدولي الجديد فعل فعله، لاسيما وأن السلوك الأمريكي، في الاستفراد والاستحواذ والهيمنة يدفع حتى الخراف إلى التنمر بداعي غريزة البقاء التي يفرط بها العقل السياسي الأمريكي المأزوم حتى بالنسبة إلى أقرب حلفائه.

ثانياً: روسيا العازمة على استكمال البناء الأوراسي، لم تغفل عينها عن تركيا، الدولة المحورية في جوارها الجيوسياسي منذ أن فرضت موجبات استمرار وجودها ضرورة منع توسع دائرة الفوضى الخلاقة الأمريكية، روسيا هذه التقطت اللحظة التاريخية المناسبة لوضع السلم لتركيا الرسمية حتى تنزل عن شجرة المغالاة والجموح الأرعن، الذي لا يتناسب وإمكانات دولة إقليمية في ظل احتدام الصراع بين الكبار. وجاء الموقف الأمريكي المؤيد للانقلاب، احتكاكاً مباشراً مع مصلحة النخبة السياسية التركية الحاكمة، ولتزيد الفجوة بين حلفاء الأمس، دون أن يكون أحد من الطرفين قادراً على القطع، بحكم التشابك التاريخي الاقتصادي والعسكري والاستخباراتي، وحاجاتهما المتبادلة، لاسيما وأن الطرفين ينتميان إلى منظومة التراجع.

ثالثاً: تحاول تركيا ابتزاز الطرفين الروسي– الأمريكي في سياق تحديد تموضعها الجديد في شبكة العلاقات الدولية، فكانت مغامرة التدخل العسكري المباشر في جرابلس السورية، الذي وضع دائرة صنع القرار الأمريكي في الزاوية الحرجة، بين خيارين أحلاهما مر، إما الاستغناء عما تبقى من الدور التركي وهذا ما يعتبر خسارة استراتيجية كبرى، أو الاستغناء عن التحالف العسكري مع قوات الحماية الكردية. بمعنى آخر أن هامش المناورة واحتواء المتناقضات أمريكياً في المرحلة الانعطافية لم يعد ممكناً، ولا تنفع فيه لا القدرات الدبلوماسية العالية، ولا الروح البراغماتية الأمريكية المعهودة، ولا الاختراقات الاستخباراتية الواسعة، وهذا ما بدأنا نشهد ملامحه، منذ التدخل التركي، الأمر الذي ينبغي أن يكون درساً جديداً للحركة القومية الكردية بأن الرهان على الأمريكي، مغامرة غير محمودة العواقب، وأن الربح فيها مؤقت والخسارة استراتيجية، وأنها لا تتعدى كونها توريطاً يساهم في تعقيد القضية الكردية أكثر فاكثر. 

أما موسكو التي رفضت التدخل التركي، حتى لو كان تحت راية محاربة الإرهاب دون التنسيق مع الحكومة السورية، والتي طورت الموقف لاحقاً إلى رفض الاحتكاك التركي مع القوات الكردية، فتمتلك هامشاً واسعاً للمناورة باعتبارها قوة دولية صاعدة وفاعلة تدير اللعبة مع تركيا ضمن إدارة الصراع الكلي على المستوى العالمي، وتسعى جاهدة لاستدراج «التركي» إلى ملعب الحل السياسي، باعتباره القضية المركزية في الاستراتيجية الروسية، والذي سيكون على رأس جدول أعماله خروج القوات الأجنبية. 

رابعاً: إن الوهم التركي بالقدرة على استمرار الابتزاز سيكون مصيره، مصير المحاولة الأمريكية بالاحتواء المزدوج للمتناقضات ضمن المعركة الواحدة. فالمنطق الذي يحكم تكون التوازن الدولي الجديد هو منطق احترام سيادة الدول، وإطفاء الحرائق، وتبريد بؤر التوتر، الأمر الذي لا يتوافق مع الحماقات المتلاحقة للإسلام السياسي الحاكم في تركيا. وإذا كانت قد كلفت تركيا حتى الآن اعتذاراً مذلاً، وانقلاباً، فإن استمرارها يعني لفظ ما تبقى من الإسلام الإخواني خارج التاريخ.  

 

آخر تعديل على الأحد, 04 أيلول/سبتمبر 2016 10:38