أحداث في الذاكرة مظاهرة الجلاء
قبل أواسط نيسان 1965، وصلتنا رسالة من قيادة الحزب، تطلب منا الاشتراك في احتفال عيد الجلاء (الرسمي) بجماهير غفيرة، ورفع يافطات تحمل شعاراتنا، ونهتف بها. وتطلب من الرفيق يعقوب كرو الذهاب إلى دمشق.
كان هذا الطلب نقلة نوعية تصاعدية في نضال حزبنا السري الملاحق، جاءت بعد بيانه الذي قيم وقدر عالياً، ودعم وأيد بقوة التأميمات الكبرى التي أصدرتها القيادة السياسية السورية في مطلع عام 1965.
حشدنا في القامشلي مئات الرفاق من الريف والمدينة، مع ثماني يافطات وهتافين ورفيق مسؤول، على أن ينتشروا في السوق والشوارع القريبة من سراي مدير المنطقة، ويترقبوا بدء الاحتفال لينضموا إليه ويشتركوا فيه، وكنت أتصل برفيق معه دراجة هوائية ليوافيني بالأخبار بين فترة وأخرى.
تردد هذا الرفيق علي مراراً وهو يحمل الجواب نفسه: «لم يبدأ الاحتفال بعد»، حتى تجاوزت الساعة العاشرة والنصف. قلت في نفسي: يبدو أن أجهزة الأمن شعرت بأن حركة الشارع غير طبيعية في محيط الاحتفال، فأوعزت بتأجيله، لتفوت علينا فرصة المشاركة فيه. قلت للرفيق الرسول: نحن حزب الجلاء، سنحتفل بالذكرى المجيدة لوحدنا.. وتم التعميم على الرفاق أن يتجنبوا الاقتتال مع الأمن، قدر الإمكان.
انطلقت المظاهرة وفتحت اليافطات وارتفعت الأعلام، وهي تحيي ذكرى الجلاء وشهداء الاستقلال الأبرار.. ومطالبنا: خبز وسلم وحرية، وعاشت الصداقة العربية السوفياتية، وتسقط الإمبريالية الأمريكية والصهيونية المجرمة، والشعب يطالب بالديمقراطية.
بعد أكثر من ساعة والمظاهرة تجوب الشوارع، وترفد بالجماهير وتتضخم، دون أية حادثة. قلنا للرفيق صاحب الدراجة: قل للرفاق كفى... أوقفوا المظاهرة. لكن الحماس ومرور المظاهرة بسلام شجعهم على الاستمرار، حتى مروا أخيراً أمام مركز الشعبة السياسية بالقامشلي. قالوا للمتظاهرين: جئتم، والله جابكم. فاعتقلوا أكثر من عشر رفاق. وأخذوا بعض الأعلام واليافطات، وانفضت المظاهرة بعد أكثر من ساعة ونصف.
المظاهرة أزعجت السلطة كثيراً، وخاصة أمين شعبة حزب البعث العربي الاشتراكي نيقولا حنا، الذي كان يحقد على الحزب الشيوعي، فقام بعد ظهر ذلك اليوم المجيد، بحجز عشرات وسائل النقل، وأرسلها إلى الريف لجلب الفلاحين إلى القامشلي، وفي الليلة نفسها، أبلغنا رفيق نقابي، بأنهم مدعوون غداً في 18 نيسان، للاحتفال بعيد الجلاء قلت لهم ولرفاقنا الطلاب: احتفال الغد، هو ردة فعل على مظاهرتنا. مهما شتموا الحزب لا تردوا عليهم، و تجنبوا الصدام معهم..
بعد الساعة التاسعة من اليوم التالي أخذت وسائل النقل من باصات وشاحنات وحتى تريلات جرارات، تدخل المدينة وتجوب الشوارع، وركابها يهتفون ضد الحزب الشيوعي السوري، وضد خالد بكداش، وكان أطراف هتاف مضحك هو: نطالب بحجز أموال الشيوعيين.. ياحسرتي!
واستمر هذا المشهد مع مسيرة المشاة من طلاب ونقابيين وحرفيين وحزبين حوالي الساعتين، انتهى بكلمات نافعها القليل من الجلاء، والباقي ضد حزبنا!
جماهير القامشلي وريفها، تحدثوا كثيراً عن مظاهرتنا بمشاعر ملؤها الفخر، وعاد الرفيق يعقوب كرو من دمشق بشكل علني، وارتبط كمحام مندوب في مكتب المحامي الشيوعي القديم غير المنظم ميشيل أشو.
أما المعتقلون فقد جرى إطلاق سراحهم بعد أسبوعين، الأمر الذي أوحى لنا بانفراج قريب.