الافتتاحية قمتان في ظل متغيرات العصر
القمة العربية، والقمة العربية-الأمريكية الجنوبية، تعطيان مؤشرات أن هناك شيئاً ما جديداً، يجب تفحصه وتقييمه بشكل صحيح دون تهويل أو تهوين.
قمة الدوحة التي سميت قمة المصالحة العربية، جاءت بعد فترة خلافات حادة خلال السنوات الأخيرة، حيث لم تعقد قمم عربية خلال أحداث جسام لتقدم الحد الأدنى من التضامن العربي خلال عدوان تموز 2006 على لبنان، ولا بشكلها الكامل خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، فما الذي تغير فجأة حتى يفتح باب المصالحة العربية، التي تبقى في كل الأحوال حالة أفضل شكلياً من المواجهة والصدام والقطيعة العربية-العربية؟
المتغير الأول: هو الأزمة الاقتصادية العالمية التي أرخت بثقلها على عدو الشعوب الأول: الامبريالية الأمريكية، مما جعلها تفكر جدياً بإعادة النظر في أولوياتها، في عملية لن تتوقف مع استمرار الأزمة وتعمقها. فإذا كان أول أولوياتها قبل انفجار الأزمة هو السيطرة على احتياطي النفط في المنطقة بأي شكل كان، فإن أولويتها الجديدة اليوم هي الحفاظ على وضع الدولار المهيمن بالقوة السياسية والعسكرية، مما يفتح احتمال نقل مركز ثقل المعركة لتحقيق هذا الهدف من مكان إلى آخر، مع كل تداعيات هذا الانتقال على الذين كانوا يعولون على الحماية الأمريكية المباشرة لـ«كراسيهم» ومصالحهم، والذين وصلت إليهم الرسالة فيما يبدو في وقتها وبالكامل.
المتغير الثاني: انتصار المقاومات في لبنان وفلسطين خلال الحربين الإسرائيليتين الأخيرتين بما اثبت بشكل قاطع أن التفوق العسكري لا يهزم الإرادة السياسية الصلبة. ويمكن القول بلا مبالغة إن المراهنين على هزيمة المقاومة والذين اتهموها بالمغالاة قد هزموا.. وخلق هذا الانتصار واقعاً جديداً قطع الشك باليقين وهو أن القوة العسكرية الإسرائيلية لم تعد قادرة على تحقيق انتصارات تعودت عليها سابقاً، والتي أصبحت من الماضي.. لذلك فالقبول بالمصالحة هو اعتراف بالأمر الواقع الجديد الذي فرضته المقاومة.
المتغير الثالث: صمود مواقف الممانعة في سورية وإيران والتي كان الرهان على سقوطها يتأجل من عام إلى عام، فإذا بها تتجذر وتنتصر على أرضية المتغيرات أعلاه، فإذا لم تنجح محاولات الإطاحة بها من الداخل والخارج خلال عز الإمبريالية الأمريكية قبل انفجار أزمتها التي توهنها يوماً بعد يوم، فهل ستنجح هذه المحاولات اليوم؟ المنطق يقول إن هذا الاحتمال أصبح أبعد وأصعب منالاً.
هذه هي المتغيرات، أما كيف سيتعامل كل طرف من أطراف المصالحة العربية معها ليجيرها لخدمة أهدافه، فهذا الأمر نفسه مرهون باستمرار هذه المتغيرات وتفاعلها.. ولكن الذي يجب قوله منذ الآن: إن المصالحة ليست هدفاً بحد ذاته، بل هي أداة للوصول إلى التضامن العربي ولو بالحد الأدنى، وهذا التضامن محتواه الوحيد هو دعم المقاومة وإلا فلا معنى له.
إذاً هناك شيء تتفتح براعمه، والعامل الأهم في حسمه سيبقى دور الشارع العربي وجماهيره التي تتراكم طاقاتها للقيام بالفعل المطلوب لحماية كرامتها وكرامة أوطانها..
أما القمة الثانية، القمة العربية – الأمريكية الجنوبية، فهي تعبير عن روح العصر، فقد جمعت إقليمين كبيرين كانا تاريخياً منهوبين من الغرب الاستعماري، وفي ظل الأزمة العالمية تظهر فرصة تاريخية لإقامة علاقات اقتصادية بينهما تفتح إمكانية شراكات مستقبلية بين أنداد، وليس بين قوي وضعيف كما تعوّد الغرب الاستعماري بشقيه الأوربي والأمريكي على التعامل معهما، وأرضية هذه العملية هي الروح التي تمور بين شعوب هذين الإقليمين المتشربة بروح المقاومة للإمبريالية، وخاصة الأمريكية.
لقد أتت هذه القمة الثانية لتؤكد أن العالم يعيش مرحلة انعطاف عميقة تجتاح البلدان والأقاليم والشعوب والأنظمة..
إن تلمّس الجديد الحقيقي في القمتين، ولو كان جنينياً، يؤكد أن الانتصار سيكون حتماً لمصلحة الشعوب.