الموازنة ليست مجرد أرقام
تعكس أرقام موازنة 2010 والنقاش الذي يدور حولها واقع الاقتصاد السوري اليوم، وهي إن كانت تعكس من جانب الطريقة التي يدار بها الاقتصاد السوري، إلاّ أنها من جانب آخر، تعكس آفاق تطوره المحتملة خلال الأمد المنظور..
لذلك لابد من معالجة بعض الأرقام وما تحمله من دلالات.
تقول أرقام الموازنة إنها ستبلغ 754 مليار ليرة سورية تتوزع على 327 مليار باتجاه الاستثمار، و427 باتجاه المصاريف الجارية، أي نسبة الجاري 57% من مجمل الموازنة، بينما نسبة الاستثماري هي 43%.. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الاستثماري لا ينفذ كحد أقصى إلاّ بنسبة 75% تقريباً وهو ما جرى في السنوات الثلاث الأخيرة، لاستنتجنا أن الاستثماري الذي سينفذ من المقترح في عام 2010 هو نحو 245 مليار ل.س.. بينما ستبقى مبالغ تعادل أكثر من 80 ملياراً غير منفذة، وستحوّل كالعادة عبر المناقلات، إلى الموازنة الجارية التي ستبلغ نسبتها من إجمالية الموازنة حين التنفيذ النهائي أكثر من 55 مليار ليرة، أي نحو 70% منها..
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الموازنة الجارية هي استهلاك، وأن الموازنة الاستثمارية هي من حيث المبدأ توظيفات لتوسيع القاعدة الإنتاجية والخدمية، لعلمنا مقدار الخلل الموجود، ومقدار زيادة التشوه في البنية الهيكلية الذي تسببه سياسات من هذا النوع..
من جهة أخرى، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المنفذ المحتمل من الموازنة الاستثمارية بالمقارنة مع مجمل الناتج المحلي الإجمالي المقدر لعام 2010 الذي سيبلغ نحو 2500 مليار ل.س، لن يتجاوز نسبة 10%، فعن أي نمو حقيقي محتمل يمكن الحديث؟ إذ أنه من المعروف أن 10% من الناتج المحلي الإجمالي لن تكفي إلاّ لتأمين نمو صفر، وهو يعادل فقط ضرورات الاستبدال والتجديد إذا تحقق، أي ما يسمى بلغة الاقتصاد السياسي: «إعادة الإنتاج البسيط».. وبهذا يصبح الحديث عن أي نمو إيجابي حقيقي هو ضرب من المستحيل..
إن العالم الرأسمالي الذي تعصف فيه أزمة طاحنة يحاول أن يلقي بجزء كبير من أشكال هذه الأزمة على الأطراف الأضعف في العالم، وما أزمة دبي إلاّ دليل على ذلك، إذ أنها تثبت أن التوجه الضعيف نحو الإنتاج المادي، والتوجه المبالغ به نحو الفروع الخدمية من مصارف وعقارات، لهما نتائج كارثية. والوسيلة الوحيدة لتخفيف آثار الأزمة على الأطراف الأضعف هي اللجوء إلى حماية وتطوير الإنتاج المادي - السلعي، وخاصةً في الزراعة والصناعة..
إن أرقام موازنة 2010 لا تبشّر بخير من حيث إمكانية نمو الإنتاج السلعي الحقيقي في القطاعات الرئيسية خلال المدى المنظور المقبل، ما سيلقي بظله الثقيل على مستوى معيشة الجماهير الشعبية التي تراجعت قدرتها الشرائية بشكل محسوس خلال الأعوام القليلة الماضية..
وإذا نظرنا إلى الموازنة من زاوية أخرى فيما يتعلق بالخدمات الاجتماعية، وخاصةً في مجال التعليم والصحة لتبين لنا التالي:
ـ حصة التعليم بكل مراحله في الموازنة هو 2.5% منها..
ـ حصة الصحة في الموازنة 0.35%.
أي أن كل مواطن سوري سيصيبه (21$) 957 ل.س في مجال التعليم، و(2.5$) 113 ل.س في مجال الصحة، ولمعرفة خطورة هذه الأرقام نقوم بمقارنة بسيطة مع دول أخرى حسب أرقامها عام 2008:
• فحصة الفرد من التعليم في تركيا هي (1141$)، وفي الصحة (479$)..
• أما في إيران فهي على التوالي (132$)، و(85$)..
• وفي تونس (224$)، و(97$)..
• أما حصة الفرد من الصحة في السودان فهي (43.6$)، وفي الأردن (91$)..
وكل هذه الدول لا تعلن في سياساتها توجها نحو اقتصاد السوق «الاجتماعي..
إن التوجه الاجتماعي ليس كلمةً تقال، بل هو أرقام وأموال، وبالتالي سياسات ملموسة يجب ممارستها كي تنعكس على مصالح الناس.
إن تراجع دور الدولة في التعليم والصحة هو أمر خطير، يجب مراجعته وإيقافه والعمل السريع على تغيير اتجاهه فوراً، لأنه إن أحدث دور الدولة فراغاً في هذا المجال، فالقطاع الخاص مهما كانت إمكاناته ونواياه، غير قادر على الإطلاق على القيام بهذه المهمة التي إن جرى التفريط بها سيكون التأثير كارثةً على الاستقرار الاجتماعي، مع ما يحمله ذلك من مخاطر سياسية. إن الخدمات التي تقوم بها الدولة هي دعم للرواتب والأجور المنخفضة أصلاً.. وتركها في مهب الريح يعني تحميلها لهذه الرواتب والأجور أعباءً إضافيةً غير قادرة عليها..
لقد ادعى منظرو الليبرالية الجديدة في بلادنا أن تراجع دور الدولة الاقتصادي المباشر سيعني زيادة الاستثمار في التنمية البشرية، وخاصةً في مجال التعليم والصحة، ولكن الذي يجري على أرض الواقع هو عكس ذلك، وهذا يثبت صحة التخوفات التي حذرت من أن أي تراجع لدور الدولة الاقتصادي سيعني تراجع دورها الاجتماعي في القطاعات الرئيسية..
إن الموازنة ليست مجرد أرقام، إنها سياسات وتوجهات، وقد آن الأوان لإعادة النظر فيها فوراً، لأنها تقوم كل يوم بزيادة الضغط على المستوى المعاشي للجماهير الشعبية، في وقت تتمركز فيه الثروة أكثر فأكثر في قطاعات ريعية مثل العقارات والمصارف والاتصالات محدثةً أضراراً فادحةً بكل الاقتصاد الوطني، وخاصةً في فروعه الإنتاجية في القطاعين العام والخاص.. إن مواجهة هذا الاستحقاق بأسرع ما يمكن هي ضرورة قصوى للحفاظ على كرامة الوطن والمواطن..