لوحة فسيفساء هائلة: الجـولان.. الشـتات الذي سيعـود إلى جـدار الجنوب
«هل حقاً أنت نازح، ودرستَ في مدرسة النازحين»؟
باندهاش قالها أستاذ اللغة العربية بعد أن صدرت نتائج المذاكرات في الفصل الأول من عام 1980 كنت حينها في الصف السابع.. نعم، مرتبكاً قلتها ومرتجفاً، ما الذي فعلته ليقولها الأستاذ هكذا، وهل رسبت في المادة التي أحبها، ولكنه عاد سريعاً ليطمئنني بعد أن لامس ارتباكي، علامتك يا بني 58 من 60.. أحسست بسائل بارد يمر في شرايين قلبي ما زلت أحسه حتى اليوم، ونشوة تغمرني، ولكن إحساساً آخر ما يزال يلازمني أيضاً.. ماذا قصد الأستاذ، ولماذا كانت دهشته؟.
الأول.. غريباً
في ابتدائية عدنان المدني كانت وحدتي وتفوقي، كنت مع «صلاح» الطالبين الوحيدين في الصف من الجولان المحتل، وفي نهاية كل فصل كنا من يحصد (مرحى، تقدير، امتياز) بالإضافة إلى هدية مميزة قلم (ستيلو) بالحبر السائل، وأول ما كان ينظر إليه والدي (رحمه الله) قبل جلاء المدرسة هو تلك الهدية التي كانت تعني له دوام التفوق.
قضيت سنواتي الدراسية الأولى على هذا النحو، ومثال الطالب النظيف الشاطر الذي يرفع سبابته عند كل سؤال، ولكن مع كل هذا التميز كانت تصل إلى مسامعي جملة أكرهها عندما يسأل الأستاذ الطلاب في أول السنة عند التعارف: أنت.. من أين؟ تأتي إجابتي كما تعلمتها من القنيطرة، أقصد من الجولان.. الكلمة الكريهة تفوح من فم ذاك الأستاذ: أنت نازح؟
نعم أنا الطالب النازح عبد الرزاق جمعة دياب.. الغريب الأول على الشعبة الأولى.
مع (أبو زكي) الحلاق
الحلاق الوحيد في الحي الذي ولدت فيه، الرجل الطيب وصديق والدي، يأتي (أبو زياد) مع كل الصباحات، ويصرخ من الشارع ليحث والدي على الرزق، بصوته الناعم العالي: يا أبو علي النازح.... وأحياناً يدخل بعد أن يلح عليه والدي ليتناول معنا الإفطار الذي كان وجبة مقدسة قبل الذهاب إلى المدرسة، يغمس أبو زكي لقمته الكبيرة في صحن (اللبنة المدورة)، ويقول أنتم النازحين تصنعون لبنة طيبة، ويبدأ الرجل الطيب بتذكر رحلاته إلى الجولان: بلادكم بلاد خير، الثلج متران، وعندما نعاني في الشام من مواسم الجفاف نذهب للضمان (الأراضي) في الجولان، بلاد خير وبركة.
كان حديث الحلاق يدخل السرور إلى قلبي، هنا يوجد من يعرفنا، ومن يحب بلادي المفقودة.. كانت تلك أول إرهاصات الشتات، وأولى ضريبة النزوح التي لامستني قبل أن أعرف بالضبط التفاصيل الكثيرة عن قصة 151 ألف مواطن شردتهم عصابة صارت تسمى (إسرائيل).
الحي..غرباء ولكن..
دمشق نهاية السبعينيات.. هنا بداية ما أتذكره عن العالم الذي صرت جزءاً منه، الحارة الدمشقية بحمام السوق، والجامع الصغير، ودفوف الأموات الصالحين الذين لا يخرجون إلا بعد أن تدق، كانت (النوبة) من طقوس الفرح الذي يخالجني عندما أفتش في ذاكرتي عن شكل الرقص، شجرة (الكينا) على كتف النهر، والحداد الذي أخرجني ذات يوم من النهر بعد أن دفعني أخي الصغير إليه في لعبة طفولية، قال لي الحداد حينها: (غداً تكبر وتقص على أولادك الحكاية)، وبقليل من البن على الجرح صار لدي ندبة تحت الذقن توقظ الذاكرة عند كل جولة حلاقة.
هكذا كانت طفولتي سعيدة، الغصات القليلة كانت تذهب مع أول نسمة تهب في الصيف من مدخل ذلك البيت.. بحيرة في الوسط، شجرة نارنج، درج خشبي، وعلى كل الأبواب مسامير بلون أسود وملمس ناعم، وباحة ترابية واسعة صالحة للعب الكرات الزجاجية (الدحاحل).. كان بيتاً شامياً بامتياز عاشت في جنباته أسرة قادمة من السهول إلى المدينة الأعرق في العالم.. من هنا كان لغربتي لون الفصام، أحاديث تشدني إلى البلد الضائع، وواقع أعيشه بلذة النشوة الأولى.
في الحي.. حياتنا ها هنا ككل المواطنين باستثناء تلك العبارة: بيت النازحين.
الحقيقة.. الخوف
فيما بعد عرفت أن والدتي خرجت من بيتها بـ(بطانية) لفت بها أخي الوحيد، كان والدي حينها في الجيش، خرجت مع كل الذين ظنوا حينها أن ما يجري مجرد معركة وسيعودون إلى حصادهم، كانت سنة 1967سنة خير، وكان القمح كما يروي كبار السن (يغطي الزلمة)، وحتى اللحظة ينتاب بعضهم الذعر من سنوات الخير، فهي تذكرهم بسنة النكسة.
كان على العائلات أن تتدبر أمرها وسط المدينة أو في ريفها، واستقبلتهم العائلات الشقيقة في الوطن كما يجب، وتروي أمي القصص الكثيرة عن الليالي الحالكة للحرب، وعن طيبة أهلنا في هذه البلاد، عن إيوائهم وإطعامهم، والعناية بأولادهم، كانت الحرب قاسية لكنها توحّد القلوب.
طال الرحيل، والقمح يبس على أمه، وتم اغتصابه مع الأرض، والأيام القليلة صارت سنوات، وصار لزاماً على الضيف في النهاية أن يريح مضيفه، وبدأت رحلة البحث عن بيت جديد، وعمل جديد، وقرية تشبه تلك التي ضاعت ريثما تحين العودة.
هنا بدأت الأزمة.. الخوف من أن لا تجد سقفاً لرأسك، وجدراناً تحمي بها أولادك، عشرات الألوف تحتاج إلى سكن وعمل، وصار الضيوف عبئاً على الاقتصاد والبيوت والجوار، والمصطلح المؤقت (نازح) صار عنواناً بعد أن كان وصفاً لحالة.
الخوف دفع بالبعض إلى الغضب، العصبية، العمل كيفما اتفق لبناء البيت، اللهاث وراء اللقمة كيفما كانت وأينما وجدت.. من هنا ولدنا وفي فمنا لقمة عصية على البلع، وشهوة في اختطافها، وهدف ربما أضاع أهدافاً أكثر أهمية، وورثنا فقط خوفنا من أن نكون بلا بيت.
قلق الرحيل
أكثر من عشر سنوات قضيناها في بيت للإيجار.. في عام 1979 صار باستطاعة والدي أن يبني بيتاً، وسط هذا الشعور المرعب كان القرار بالانتقال إلى بيتنا الجديد، رفض داخلي للفكرة عززته والدتي بعدم رغبتها، والسبب هو أن الخيار في ذلك يعود إلى رغبة والدي بالسكن بين أقربائه، كانت تلك بداية فهمي لفكرة العودة بشكلها الجزئي، التعويض عن المفقود في بناء التجمعات وسط (الغربة)، وهكذا كان.. وعلى الطريق أحسست بأنني أنفصل عن طفولتي، شخص آخر يسكنني، وطفل انتزع من داخلي، في رحلة هذه المرة ليست من الذاكرة، نزوح جديد على الأرض، وقلق يعتري الصغير من رحلة ستصنع فيما بعد قلق الرحيل، وعقدة المكان.
فسيفساء النزوح
ميزة الجولان بفسيفسائه الذي يشكل لوحة ملونة، البشر ألوان، العيون بصمات عن شعوب هاجرت من كل الشرق لتجد مستقرها قرب الماء، ووسط مناخ أسطوري، سكنت القبائل والمدن الراحلة والطوائف والعشائر والأقليات في الجولان بلوحة هائلة الجمال.
النكبة وزعت الفسيفساء الرائع، وربما تناثرت اللوحة وتوزعت، ولكن الحنين إلى الجولان ظل دائماً هو القاسم الكبير، ولسنوات ليست بالبعيدة كان العزاء والفرح يجمعنا بأشخاص لا نعرفهم، كان الجولان كلمة السر لأن يتبادل الناس هنا كلمات العزاء وتحيات الفرح، وكان العيد موعداً جديداً للتذكر، وخيط ترابط لا تخفيه الغربة.
من بانياس إلى عين فيت، من زعورة إلى واسط وسكيك، الفرن وعيون حور، عين الحمرا والخشنية، عين الحجل بقعاثا، المنصورة ومجدل شمس عناوين الفسيفساء البعيدة التي تجمع الشتات، وتوحد أطيافه.
الأجمل أن الناس هنا أعادوا تسمية بعض تجمعاتهم بأسماء القرى المحتلة، والتجمعات التي انتقلت إلى المدينة ومحيطها مجرد رحيل نحو القرى التي لن تندثر بفعل جرافة أو بلدوزر.
اغتراب
ما يبعث على الخشية أن يتوه الجيل في حمى التوهان العام، فمع الأخلاق الجديدة التي تضرب الجيل يخشى أكثر علينا، نحن الذين يجب أن نتمسك بالذاكرة، ونمدها بزخم الرجوع.
في أحد التحقيقات الصحفية التي أجريتها حول أهلنا في الشتات يحدثني رب أسرة (كردية) من مدينة فيق أن عائلته بنت أول معصرة زيتون في الجولان، ووسط أبنائه أخرج من صندوق قديم مفاتيح البيت والمعصرة، والوثائق التي تثبت ملكيته لها، وبكى وقد ضاعت كلماته.
يقول الرجل: تغير الجيل، وأنا في الثمانين، سأترك لأولادي كل هذه الأوراق والذكريات، فهل سيحافظون عليها؟ هل سينسونها؟ يرتجف الرجل المسن من فكرة ضياع الذاكرة.
الأبناء الذين ولدوا هنا يجب أن لا يتركوا دون تاريخ، الجولان ليس فقط أرض سورية محتلة، بل بشر تضاعفوا، وتوالدوا، ولوحة هائلة يجب أن تعود إلى جدارها في الجنوب.
إلى أستاذي القديم
سيدي الذي لا أعرف إن كنت حياً أم ميتاً، «هل أنت نازح».. سؤالك القديم لم يغادر ذاكرتي، الآن وبعد أن تجاوزتُ الأربعين أشكرك من كل قلبي، سؤالك الذي أشعرني وأنا طفل بالإهانة.. الآن هو من يذكرني بإرثي في أرض أبي وجدي، وبثأري لروح خالي الطاهرة التي انتزعها أحد أفراد عصابة تسمى (اسرائيل) من جسده بقذيفة طائرة غادرة عام 1967، سؤالك يا سيدي واستغرابك يجعلني اليوم أكتب إليك بيد ثابتة، وخاتم لا أخجل به.. النازح حتى اللحظة.
العنوان: جبب الميس- الجولان