ما هو الجديد في الأزمة الرأسمالية الحالية؟ وأي دور لـ«اليسار» في المنطقة؟
إن معالجة مسألة وضع «اليسار» العربي ومستقبله تتطلب تقييم طابع المرحلة الحالية من تطور الرأسمالية، بما يسمح بطرح الأسئلة بسياقاتها الواقعية، واستشراف مستقبل القوى اليسارية والحركة الشيوعية تحديداً، الذي نعتقد في حزب الإرادة الشعبية بأن آفاقه مفتوحة وواسعة، سواء وعينا ذلك أم لم نَعِه. إن هذا الموقف مبني على طبيعة أزمة الرأسمالية في المرحلة الحالية، ودخول الشعوب بمرحلة نشاط سياسي، كتعبير عن وحدة الأزمات الاجتماعية التي أنتجتها الرأسمالية.
١- الأزمة الرأسمالية وفرادة سياقاتها
الأزمة الحالية العاصفة بالنظام الرأسمالي تأتي في سياقات فريدة بالمعنى التاريخي، مما يجعلنا نعتقد بأنها أعمق أزمة في تاريخه، وقابلة لأن تكون نهائية وقاصمة. فرادة السياق يمكن تقسيمها إلى مستويين، الأول: هو مستوى تطور بنية الرأسمالية بحد ذاتها من ناحية استنفادها هوامش التوسع الأفقي، والمقاومة العالية التي يلقاها التوسع العمودي، خصوصاً في دول المركز الرأسمالي، بالإضافة لنتائجه السياسية التي من المرجح أن تكون بمثابة (انقلاب السحر على الساحر). إن إحداث التوسع العامودي الكافي، يضيق بالتالي هوامش عملية إنتاج وإعادة إنتاح رأس المال بحد ذاته.
المستوى الثاني: هو تغير التشكيل الاقتصادي والعسكري، وإعادة توزع عوامل القوة السياسية على صعيد العالم. الأمر الذي يعقد «المخارج» الكلاسيكية للأزمة عبر الحروب.
• المستوى الأول
الأزمة على الصعيد البنيوي
على الصعيد البنيوي تعبر أزمة ٢٠٠٧-٢٠٠٨ عن استنفاد القطاع المالي لدوره التعويضي المؤقت لأحد الاتجاهات الأساسية في التطور الرأسمالي، ألا وهو ميل معدل الربح للانخفاض في قطاعات الإنتاج الحقيقي.
لقد حققت الطفرة في القطاع المالي ثلاث وظائف: أجلت اندلاع أزمة فيض الإنتاج في القطاع الصناعي، وزودت القطاع الصناعي برأس المال، مع توفير بدائل استثمارية ذات ربحية عالية في القطاع المالي والخدماتي، وأخيراً سمح الإئتمان بنهب القيمة الزائدة المستقبلية قبل تحققها، في الوقت نفسه الذي سمح بتخفيف الآثار المباشرة لتخفيض الأجور في بلدان المركز، ولكنه راكمها لتنفجر دفعة واحدة.
تراجع معدل الربح
دراسة استبيانو مايتو، المنشورة في عام ٢٠١٤ من قبل جامعة ميونخ:
بينت ميل معدل الربح للانخفاض على الصعيد العالمي من حوالي ٤٠٪ عام ١٨٧٠ إلى نحو ٢٠٪ عشية الأزمة عام ٢٠٠٧-٢٠٠٨، أما في دول المركز الرأسمالي فقد انخفض من ٤٢٪ إلى ١١٪ عام ٢٠١٠ الجدول التالي مأخوذ من الدراسة السابقة ويوضح تطور معدل الربح في بعض الدول الأساسية.
إن استنفاد الفضاء المالي لدوره في (إسناد) عملية إعادة إنتاج رأس المال، أثر سلباً بشكل شبه آلي على دور عامل آخر في تعويض ميل معدل الربح للانخفاض، ألا وهو التجارة الحرة، التي انخفضت لمستويات قياسية بعد الأزمة. هذا وتؤشر الدراسات إلى أن التراجع النسبي الحاصل في التجارة بعد الأزمة هو تراجع تسوده العوامل البنيوية على العوامل الدورية.
القاعدة في التطور الرأسمالي هي أن يكون معدل نمو التجارة أعلى (تقريباً ضعف) معدل النمو الاقتصادي، إلا أن معدل نمو التجارة انخفض مؤخراً إلى أقل من معدل النمو الاقتصادي، هذا عدا عن كون مستويات التجارة النسبية انخفضت إلى قبل ماكانت عليه في حقبة التسعينيات (للاطلاع على النقاش الحاصل حول هذه المسألة في الأوساط الأكاديمية الليبرالية انظر هنا)
في هذا السياق، لم يبق أمام رأس المال سوى التغول والتوسع العامودي، أي تخفيض حصة الأجور من الدخل وهو الاتجاه العام في دول المركز الرأسمالي منذ الثمانينات، والذي تسارع بعد الأزمة، ورفع مستويات نهب القيمة الزائدة. الجدول التالي يبين تراجع حصة الأجور من الدخل الوطني في دول المركز والمأخوذ من تقرير منظمة العمل الدولية.
حصة الأجور المعدلة من الدخل الوطني
أحد مكونات الرد على الأزمة في دول المركز جاءت على شكل برامج تقشفية، بتأثيرها السلبي على الأجور بأوجه متعددة، فمن تخفيض حصة الأجور من الدخل عبر برامج تسريح العمال، حيث سيتم في فرنسا شطب ٣٥٠ ألف وظيفة في السنوات الخمس القادمة على سبيل المثال، إلى الاقتطاعات من مختلف عناصر الأجور غير المباشرة (الخدمات الاجتماعية) والأجور المؤجلة (الرواتب التقاعدية)، وصولاً إلى رفع الاقتطاعات من الأجور عبر ضرائب، ورسوم وإلخ..
من ناحية أخرى، تأتي (الإصلاحات) التي تطبقها المراكز والمتمثلة بإعادة هيكلة «سوق العمل» وجعله «أكثر مرونة»، وهذه تهدف إلى رفع مستوى نهب القيمة الزائدة. فعلى سبيل المثال، المعركة الجارية في فرنسا من أجل تعديل قانون العمل هي مثال حي على الصراع الطبقي بشكله الواضح، إذ يجري العمل على تغيير البنية القانونية بما يسمح برفع عدد ساعات العمل، وتخفيض تعويضات ساعات العمل الإضافية لنصف ما كانت عليه، وتفتيت الطبقة العاملة عبر تكريس المفاوضات (بين ممثلي رأس المال وممثلي العمال) على صعيد الشركة الواحدة، بدلاً من الاتفاقات على صعيد القطاع أو الاقتصاد ككل، وتخفيض رواتب البطالة المقتطعة أصلاً من الأجور.. وإلخ.، وكان قد سبق اقتراح التعديل هذا، تعديل نظام التقاعد بما يضمن زيادة عدد سنين العمل ورفعها من ٦٠ إلى ٦٧.
من نافل القول أن التوسع العامودي، يعني رفع مستويات التناقض بين العمل ورأس المال، ورفع مستويات الصراع الطبقي بتعبيراته المختلفة، بما فيها ارتفاع مستوى النشاط السياسي للجماهير، ما أدى، وسيؤدي إليه بشكل متسارع، من انتقال الأزمة من مستواها الاقتصادي إلى مستواها السياسي، بما تعنيه من تضعضع وانهيار الفضاءات السياسية بمكوناتها التقليدية، وهو ما نشهده اليوم في منطقتنا، وفي أوروبا: تبخر الحزب الاشتراكي الديمقراطي في اليونان، تسارع عملية تبخره في اسبانيا، وبدايتها في فرنسا، في الوقت الذي تصعد فيه بسرعة أحزاب «جديدة»: صعود اليمين القومي في دول المركز، وقوى يسار في أطراف المركز.
إن معطيات الأزمة سابقة الذكر، واضطرار رأس المال للتوسع العامودي تجعلنا نستنج أن إحدى السمات الأساسية للمرحلة التاريخية الراهنة هي التسارع بمنسوب نشاط الجماهير على صعيد العالم، ارتفاع عدد الاحتجاجات الكبرى على صعيد العالم من ٦٠ احتجاج عام ٢٠٠٦ إلى ١١٥ عام ٢٠١٣. وهو ما يعني انفتاح الأفق أمام القوى الممثلة لمصالح الجماهير، بما فيها اليسار، وتحديدا اليسار الجذري.
تجدر الإشارة هنا، بأن طابع الأزمة وعمقها يحولها إلى «مجزرة» للقوى السياسية الإصلاحية، وتحديداً اليسار الإصلاحي. فتجربة اليونان مثلاً تظهر أن حزب سيريزا لم يستطع حتى أن يكون، إصلاحياً، اشتراكياً ديمقراطياً، إذ خضع كلياً لأجندة رأس المال المالي.
*عضو المجلس المركزي لحزب الإرادة الشعبية
المداخلة كاملة منشورة على موقع قاسيون الالكتروني kassioun.org وهي مداخلة ألقيت باسم حزب الإرادة الشعبية في الملتقى الفكري اليساري الأول الذي انعقد تحت عنوان «دور أحزابنا الشيوعية وعموم قوى اليسار والديمقراطية في مواجهة مشاريع تفتيت بنية الدولة الوطنية، وفي مواجهة التطرف والارهاب والطائفية»، وذلك في كوبنهاكن يومي 28-29/5/2016 في مقر الحزب الشيوعي الدنماركي.