صناعة السياسات في سورية
وصلت سوريا إلى مرحلة أزمة مجتمع حادة تحمل معها مقدمات لتحولات سياسية جذرية، هذا ويعتقد البعض أن عمق هذه الأزمة مرتبط بحكم أسرة الأسد وأن مقدماتها بدأت مع بدايات الحركة التصحيحية، غير أنه بتدقيق تاريخي موضوعي للحالة السياسية في سورية نجد أن هذه المرحلة هي الأعلى في مسار منهج سياسي، بطبيعته مولد لأزمات حتمية، تعود جذوره التاريخية لفترة ما بعد الإستقلال وما حملته معها من تركات الإنتداب.
هذا المنهج سمح في خاتمة المطاف بسيطرة وترسيخ ظاهرة عسكرة السلطة والسياسة بدءاً من إنقلاب حسني الزعيم عام 1949 وما تبعه من إنقلابات عسكرية تحت مسميات عدة حتى تاريخنا الراهن.
في آذار 1949 حدث إنقلاب حسني الزعيم تبعه في آب 1949 إنقلاب سامي الحناوي ثم الإنقلاب الأول لأديب الشيشكلي في كانون الاول 1949 وإنقلابه الثاني في شباط 1951 الذي أعقب بانقلاب ٢٤ شباط ١٩٥٤ الذي قاده العقيدان أمين أبو عساف وفيصل الأتاسي ومن ثم المحاولة الإنقلابية لمحمد معروف وغسان جديد في نوفمبر 1956، وحركة عصيان الضباط البعثيين في آذار ١٩٥٧، ومحاولة انقلاب تموز 1957، ومن ثم حكم الوحدة المصرية السورية بين الأعوام 1958-1961 الذي لا يختلف في شكله عن الحالة الإنقلابية والذي تبعه في أيلول من عام ١٩٦1 إنقلاب الانفصال ومن بعده انقلاب ٢٨ مارس ١٩62 ومحاولة انقلاب كانون الثاني ١٩٦3ومن ثم ثلاث إنقلابات وثلاث محاولات إنقلابية بين 8 آذار 1963 و 16 تشرين الثاني 1970 في ظل هيمنة حزب البعث العربي الإشتراكي والتي إستقرت على إنقلاب اللواء حافظ الأسد تحت مسمى الحركة التصحيحية التي عاشت حتى عام 2000 ليليها فترة تحول في السياسات الإقتصادية حتى عام 2011 أدت إلى خلق المقدمات لأزمة وطنية حادة لا تزال مستمرة حتى ايامنا هذه.
إمتازت مجمل هذه الإنقلابات بجملة من الممارسات التي رسمت معالم الدولة السورية: العبث السياسي في المؤسسة العسكرية، تصفيات ما بعد كل إنقلاب في صفوف الجيش والقوات المسلحة، سيطرت المؤسسة العسكرية على الحكم المدني، تزوير للإنتخابات التشريعية والرئاسية التي كانت نتائج الفوز فيها تتجاوز دائماً بنسبة 99%، تعطيل للحياة السياسية، وضع دساتير مرنة تخدم الحاكم وتكرس المركزية، إبتعاد عن الحياة الديمقراطية وإمتلاء السجون بالقيادات السياسية، سيطرة الجيش على السلطة التنفيذية وتدخله في السياسة الخارجية، تنامي دور أجهزة الإستخبارات في الحياة العامة، إستثمار البنى الطائفية والعشائرية استثماراً مشوهاً لتعزيز كيان السلطة، إهمال فظ للسياسة الداخلية وتدهور في الأوضاع الإقتصادية والمعاشية، وأخيراً حضوراً مميزاً للمخابرات المركزية الأميركية ودوراً للدوائر الدبلوماسية الفرنسية والإنكليزية في جميع هذه الإنقلابات.
ولعل ما أورده مايلز كوبلاند في كتابه «لعبة الأمم» من أن الاستخبارات الأمريكية لا تساعد على صناعة الحكومات وسياساتها لكنها مستعدة لتصب كل جهدها لإسقاطها إذا ما تبين أنها لا تخدم مصالح الولايات المتحدة الأميريكة ومن ضمنها أمن إسرائيل، رغم أنه يعود لينقض مقولته هذه بذكره مثالاً يقول فيه أن للاستخبارات المركزية الأمريكية دور رئيس في وصول حسني الزعيم إلى رأس السلطة بالتنسيق معه وتقديم المساعدة والنصح والمشور لنجاح إنقلابه، وهذه حقيقة أكدتها وثائق أجهزة الإستخبارات الاميركية. مايلز كوبلاند هذا شغل مهام منصب مستشار لجنة تخطيط السياسة الأميركية في الشرق الأوسط في وزارة خارجية بلاده وعمل في السفارة الأميركية في فترة حسني الزعيم كما عمل لتسهيل تنفيذ مشاريع ومخططات الولايات المتحدة الأميركية في كل من مصر ولبنان والعراق وغيرها من دول العالم الثالث.
وإذا تباينت طبيعة الأنظمة والسياسات في مختلف هذه المراحل الممتدة من عام 1949 حتى أيامنا هذه، فإن هذا التباين لا يتعدى بعض التفاصيل ودرجة تاثيرها في الحياة الدستورية والديمقراطية، وتبقى هذه الأنظمة وسياساتها متقاطعة فيما بينها بقواسم عامة يمكن إيجازها بسيطرة المؤسسة العسكرية على الحياة المدنية والمؤسسات الدستورية، محاولة تدجين الحياة السياسية برعاية حزب سياسي واحد (حزب السلطة) وهو ما عرفته سوريا في عهد أديب الشيشكلي وجمال عبد الناصر و حكومات البعث العربي الإشتراكي المتعاقبة، هيمنة العنف السياسي والدموي في بعض الاحيان على الحياة السياسية، وتنامي الفساد السياسي والإقتصادي وتحوله مع الزمن إلى منظومة متكاملة تعيش تحت ظلال الدولة ومؤسساتها.
هذا المشهد حيث سيطرة المؤسسة العسكرية على الحياة المدنية والدستورية منذ الإستقلال حتى يومنا هذا، يؤكد على أن معالجتنا للأزمة السورية لا يجب أن تنطلق من بداية سبعينات القرن العشرين بل تستوجب العودة لجذورها السياسية التاريخية الممتدة من فترة ما بعد الإستقلال.
إضافة للقواسم المشتركة لمختلف هذه المراحل السياسية فقد حملت عسكرة الحياة السياسية آثارها السلبية على التقدم والحياة الإجتماعية والإقتصادية، وإذا كان الوجود الإسرائيلي قد شكل هّماً وذريعة لمختلف الحكومات المتعاقبة فإن هذه الأنظمة ولطبيعتها العسكرية لم تجد هويتها إلا من خلال ترجيح السياسة الخارجية ومشاريع الأحلام القومية على حساب السياسة الداخلية وقضايا التنمية. لقد تتالت في الأوراق السياسية لهذه الحكومات مشاريع عدة لتحصين وضعها الذاتي أكثر من تحصين الدولة والمجتمع ولعل أهم هذه المشاريع مشروع الوحدة مع العراق، مشروع الهلال الخصيب، مشروع الوحدة مع مصر، العلاقة مع السعودية، وهواجس النفط والعلاقة مع الدول الغربية (مشروع التابلاين والتنقيب عن النفط مثالاً) وغيرها من القضايا...، بالمقابل لم تعطى قضايا التنمية الإقتصادية والإجتماعية حقها، ولم تأخذ الزراعة والصناعات الزراعية أهميتها الستراتيجية في مقابل التركيز على صناعات المدن الكبرى، كما لم يعطى تطوير الريف والمحافظات البعيدة تلك الأهمية اللازمة، لم تأخذ قضية تطوير التعليم والعلوم الحديثة أهميتها كشرط لمواكبة العصر إلا متأخراً، والأهم من ذلك كله عدم الإهتمام بخلق فرص عمل للشباب مما أدى لهجرة الكوادر والفنيين واليد العاملة العادية والخبيرة الماهرة نحو دول الخليج، وغيرها من القضايا الستراتيجية والحيوية لنهضة اي أمة في العصر الحديث. بإختصار كانت الستراتيجية منصبة على الشأن الخارجي ليأتي الشأن الداخلي في آخر سلم الإهتمامات.
هذا المشهد بمكوناته كان كفيلاً بإيصال النظام السياسي الحالي في سوري، بصفته المرحلة الأعلى في نهج عسكرة الحياة السياسية، إلى طريق مسدود مترافق بإهتلاك مؤسسات الدولة وإرهاق المجتمع ودخوله بإختناقات إقتصادية وإجتماعية لا بد وأن تنعكس لتتحول إلى طاقة رفض وتمرد كامن لا ينتظر حاملها إلا ما ومن يعمل على تحريرها. لكن ما يخشى أن لا يستوعب النظام القائم حتمية التغيير، والمؤشرات توحي بذلك، فتستثمر قوة التمرد هذه ولو مرحلياً في صالح مشاريع تغيير لبنى الدولة السورية لا تصب في إتجاه المصلحة الوطنية.