الهوية الوطنية والهوية الثقافية
تأخذ الصراعات المسلحة اليوم شكل صراعات دينية وإثنية وطائفية في الكثير من مناطق العالم، وتجري محاولة لتأسيس وبناء دول أحادية تقوم على هوية خاصة، واعتبار هذا التأسيس الحل الأمثل لتسوية تلك النزاعات، التي تسوّق أسبابها على أنها اختلاف وتنوع الهويات الثقافية وعدم قدرتها على التعايش مع بعضها، ومنها منطقتنا، ويستند هذا الإدعاء في كثير من الأحيان على مبادئ أقرتها المواثيق الدولية كحق تقرير المصير، والذي يمكن أن يفضي في حال تطبيقه حرفياً إلى انهيار دول وتفكيك مجتمعات بأكملها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يكمن سبب اقتتال الهويات الثقافية المزعوم - كما يجري التسويق له إعلامياً اليوم- في فشل التعددية الثقافية في التعايش والتوافق والولاء للدولة الوطنية في مرحلة ما بعد الاستقلال، أم أن هناك أسباباً أخرى؟
لم يستند انجاز مشروع بناء الدولة الوطنية في منطقتنا على الأقل في مرحلة بعد الاستقلال على تعاقد هويات متنوعة ومتعددة فقط، لأن تعددها كان أمراً واقعاً قبل ذلك بكثير، ولكنه كان استمرار لحالة فرضتها ضرورات التطور التاريخي آنذاك، تجلى من ناحية في الدفاع عن الوحدة الوطنية وتحقيقها من أجل مواجهة سياسة استعمارية نشطة، هددتْ وجود هذه البلدان وعملتْ على تفكيكها إلى كيانات قطرية من جهة، وتلبية لضرورات التطور العام وحاجات المجتمع الذي تمثله، سواء أكانت اقتصادية اجتماعية أم ديمقراطية من جهة أخرى، واستطاعت هذه الدولة في البداية أن تستقطب مجتمعاتها حول مشروعها وتحقيقه.
لم تستطع الدولة الوطنية استكمال إنجاز مهامها الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية الذي بدأته، وتأدية وظيفتها الاجتماعية، في بناء مجتمع عصري يستند إلى اقتصاد قوي ويحقق توزيعاً عادلاً للثروات يتناسب مع نمو حقيقي قادر على المواجهة والصمود، وكلما تقلصت الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة للمجتمع دخلت الدولة في تناقض مع المجتمع، وهذا ما أسس لاحقاً لانفجار اجتماعي أظهر كل عيوب المرحلة السابقة.
يقوم البعض اليوم بتحميل قضية تعدد الهويات الثقافية المسؤولية في النزاعات والصراعات الدائرة، والإيحاء بعدم إمكانية قيام الدولة إلا على أساس أحادي (عرقي – ديني – قومي - طائفي ..الخ) من خلال الخلط المتعمد بين تعددية ثقافية وأخرى سياسية، هذه التعددية السياسية التي أصبحت حاجة وضرورة ملحة لإقامة ديمقراطية حقيقية تساهم بتعزيز الوحدة الوطنية، على أساس مساواة حقيقية بين أفراد المجتمع، وعلى أساس توزيع عادل للثروات، وإنجاز انتقال نوعي نحو مجتمع العدالة والحرية.
لا تعني التعددية التفكيك والتشتيت، في معناها السياسي وإنما التأسيس على التعدد الواقع لبناء سياسي يستوعبه ويتجاوزه .
إن التعددية الثقافية هي من العوامل المميزة لوحدة المجتمع السوري وقد جرى استغلال هذه التعددية الثقافية من جهة سياسية إذ تم تقزيمها إلى ما يسمى بالتمثيل الطائفي والديني والعرقي الذي كان يجري تحت الطاولة في كافة مناحي الحياة السياسية من مجلس الشعب إلى الوزارات وإلى تقاسم مقاعد مناصب الدولة في كل النواحي في محاولة لإرضاء جميع الأطراف، وفي نفس الوقت إشاعة نمط من الثقافة الموحدة التي أثبتت فشلها فيما بعد، وجرت محاولة تفادي هذا الفشل بإرساء قواعد ثقافة ثانية موازية تحت إشراف الدولة أي ثقافة دينية تحت السيطرة، لكن المجتمع السوري بكل تنوعه الثقافي يحتمل مئات الثقافات.
إن صياغةً جديدة لما يسمى بالهوية السورية هي أحد مهمات هذه المرحلة والمرحلة القادمة، بما يحترم التعددية السياسية القائمة على برامج اقتصادية اجتماعية ويحترم التعددية الثقافية بشكل حقيقي قائم على حق الجميع في التعبير عن سوريته بطريقته المحلية.