بصدد تدقيق المفاهيم
الحراك الشعبي شبح يطوف العالم، يقض مضاجع الطبقات البرجوازية هنا وهناك، وهنا في بلدان الأطراف (نسبة لدول المركز الرأسمالي) ابتليت الشعوب بحكام وأنظمة مهزومة، منذ أول أيام ظفرها بالحكم، تعاملت بمنطق الانحناء لكل رياح قوية تهب من الخارج، وكلما ازداد منسوب التبعية ازداد مستوى الإفقار وبالتالي القمع فيها، وازداد مستوى الاستياء الشعبي وبوادر الحراك الشعبي!
وإن كان الحراك بشكله الواضح قد ظهر جلياً بعد احتجاج البوعزيزي احتراقاً على سوء الوضع المعيشي والقمع الذي تعرض له، إلا أن مثل هذه التحركات كانت موجودة ليس فقط قبل سنوات عدة، وليس فقط في احتجاجات طويلة في مناجم قفصة في تونس، بل كانت أيضاً في مصر في المحلة تمهيداً لميدان التحرير، وفي سورية في إضرابات عدة قبل آذار 2011 كذلك، وبعد أن كانت تراكم تجاربها تمهيداً لثورة وطنية ديمقراطية معاصرة تندمج فيها المهام الاجتماعية الجذرية اندماجاً وثيقاً مع المهام الوطنية العامة ومع المهام الديمقراطية، تم قطع الطريق على الحركة الشعبية في محاولة لاختطافها.
انطلقت في سورية حركة احتجاجية منذ سنة وأشهر ثمانية، شكلت حالة ثورية عنوانها أن الشعب السوري يرفض بأن يحكم بالطريقة السابقة، وأن إرادة التغيير قد آنت..إلا أن وجود حالة ثورية لا يعني بالضرورة تحولها إلى ثورة، فإن الاختراقات التي عملت قوى الثورة المضادة على إيجادها(تكفيريين، متطرفين مسلحين، طائفيين) تشكل سرطاناً خبيثاً قد يودي بحياة اكبر الاحتجاجات ويدخلها حالة تأزم لا يمكن معها الانتقال إلى الثورة الحقة قبل التخلص منها، فهذه الأورام الطائفية والمسلحة إن لم يعجل باستئصالها من قبل القوى الشعبية ذاتها قبل أن تفتت النسيج الشعبي عندها لن تقوم للثورة قائمة، إن القوى المضادة للثورة تحاول في شتى الطرق تشويه الحركة الشعبية وتشويشها، ومن ذلك حرب المفاهيم، فما أهميتها؟
إن تسمية الحركة الاحتجاجية ثورة قبل أن تصبح كذلك، يعني أن يصور للشعب السوري -الذي لم يختبر في تاريخه بعد الاستقلال أي ثورة لتغيير نظام الحكم- أن الثورة هي ما يحدث اليوم، وتغيب عنه العناوين الكبرى التي لابد للثورة أن تحملها من تحول تقدمي في حياة البلاد يلحظ في اتحاد القوى الشعبية بدلاً من تفتيت النسيج المجتمعي، بل وفي تطور مفهوم المواطنة بفعل النضال لهدف جامع اقتصادي اجتماعي سياسي ديمقراطي.
إن المفاهيم أداة مهمة في فهم الواقع، والتفسير الصحيح الموضوعي للواقع وحده يكشف الإمكانيات المتاحة لتغييره، وبالطبع فإن القوى المضادة للثورة يهمها أن تظهّر إمكانيات وتطمس أخرى مصورة إياها كأحد ضروب المستحيل كتعاملها مثلاً مع موضوعتي التسلح والتغيير السلمي.
يحق للمرء أن يسأل عن الحرب الشعواء التي كانت تشن على القنوات التلفزيونية النفطية والغربية ضد كل من يقول أن ما يحدث في سورية ليس ثورة، حتى لو كان يتحدث من موقع توصيف الحركة الشعبية وفق المرحلة التي بلغتها، فالتاريخ يعملنا ( وليس عيباً أن يتعلم المرء من التاريخ!) أن الحركة الشعبية تمر بمراحل أثناء تطورها، إذ تتبلور الحركة الشعبية تدريجياً في حركة سياسية وتنظم نفسها- ولاغنى عن وجود التنظيمات- لتستطيع فيما بعد أن تقود حركة ثورية تفعل فعلها في قلب المجتمع وتغيره جذرياً بما يحقق المصالح العميقة للطبقات الشعبية. إلا أن القصد من وراء احتكار مصطلح الثورة، وسردها في الحالة السورية بوصفها دماءً وثأراً، وطوائف متنازعة لا حول لها ولا قوة تقودها من الخارج دول العالم الكبرى، القصد من ذلك، يتلخص في جانبين، الأول هو تسويق تلك الرؤية اللا ثورية، بل المليئة بالذل، التي تضع الشعب في موقع دوني تجاه الدول الكبرى لاستجداء الحلول منها، ولإنتاج أنظمة جديدة تابعة وشعوب تقبل التبعية وتعتادها وتستسيغها، وتمحو من ذاكرة الشعب كل تجربة تاريخية تقول بأن الشعوب قادرة فيما لو وعت مصالحها وابتعدت عن السلبية أن تغير مجرى الأحداث، والثاني هو حرمان الشعب من أداة معرفية فعالة في معرفة الإمكانيات المتاحة لتغيير الواقع، مما يساعده في تجذير الحركة باتجاه ثوري.
إن المطلوب اليوم من السوريين جميعاً أن ينفضوا عن أنفسهم التشوه الذي بثه التلفزيون الرسمي في شتائمه للثورة وللحرية، والتشويه الذي بثه الإعلام البترونفطي حول تقديس مصطلح «الثورة السورية»، فليس عيباً أن نكون كسوريين لم نبلغ ثورتنا بعد، وهذا لا يسيء لقضيتنا ولا ينتقص من عظمة دم شهداء الحركة الشعبية، على السوريين أن يبحثوا عن ثورتهم التي من شأنها قبل كل شيء إنقاذ سورية من المتطرفين من الطرفين، سواء كانوا في النظام على شكل فاسدين نهابين وقامعين إجراميين، أو في بعض قوى المعارضة المتسلقة على شكل مرتزقة. فقد آن الأوان للسوريين كي يصنعوا ثورتهم.